كتاب عربي 21

موجة "الفاشية" الترامبية

1300x600
تجسد خطب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمام الجمعية العامة في 25 أيلول/ سبتمبر، وأمام مجلس الأمن في اليوم التالي، كما هو حال كافة خطاباته، موجة جديدة من الفاشية. وذكر موقع "اندي 100" الأمريكي، أن أكثر الكلمات بحثا على جوجل منذ انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة؛ كلمة "فاشية"، حيث بات وصف ترامب بالفاشية شائعا في الولايات المتحدة ابتداء، ثم أصبح من أكثر الأوصاف والنعوت المستخدمة انتشارا في العالم، منذ أن تبنى ترامب في حملته الانتخابية شعار 1940، الموالي للفاشية الانعزالية، "أمريكا أولا". وقد خرج الملايين من المتظاهرين إلى شوارع واشنطن ونيويورك، وكذا المئات من المدن الأمريكية والعالمية بعد تتبعهم لخطاب تنصيب ترامب القومي العنيف، ذي النبرة الفاشية، حسب الكاتب والمؤرخ الأمريكي ريتشارد كريمان. وازداد عدد أعضاء حركة "أنتيفا" المناهضة للفاشية في الولايات المتحدة، حيث ينظمون تجمعات ولقاءات، وغالبا ما يتنقلون من مكان الى آخر، لا يحبون الإعلام، ويظهرون دائما استعدادهم لمحاربة الفاشيين.

ثمة أوصاف عديدة نعت بها خطاب ترامب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ73، من الأحادية إلى الانعزالية فاليمينية وصولا إلى العدوانية، لكن أكثرها انتشارا هي "الفاشية". فقد تضمن خطابه السمات الرئيسية لزعيم متلبس بنوع من الأيديولوجية الشعبوية الفاشية، فقد استهل خطابه كما لو كان خطابا محليا حول حال الأمة، الأمر الذي دفع الحضور إلى الالتفات وتبادل النظرات، حيث أتحف الرؤساء بالتفاخر بـ"إنجازات" إدارته؛ قائلا: "في أقل من عامين، حققت إدارتي أكثر من أي إدارة أخرى تقريبا في تاريخ بلادنا"، ليبدأ الحضور بعدها بالابتسام الذي سرعان ما تحول إلى موجة من الضحك بدلا من التصفيق. وفي مشهد يتناقض مع الفلسفة المفترضة للأمم المتحدة، تباهى بزيادة قدرة أمريكا العسكرية، وبناء الجدران في وجه الفقراء والمهاجرين، ودعا كل دولة إلى أن تفعل ما تريد، وشن حملة انتقادات شعواء على عدد من هيئات الأمم المتحدة نفسها؛ من المحكمة الجنائية الدولية إلى مجلس حقوق الإنسان، والتي تعمل إدارته على تقويضها، بحجّة أنه يشرف على انتهاكات يرتكبها البعض ويخدم كمنصة للتحركات المعادية لأمريكا وإسرائيل، مُضيفا: "بالنسبة لأمريكا، لا اختصاص قضائي للجنائية الدولية، ولا شرعية ولا سلطة"، وقال ترامب: "نرفض أيديولوجية العولمة ونحتضن عقيدة الوطنية".

كانت مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة والباحثة في مجال التاريخ، قد تنبهت مبكرا إلى النزعة الفاشية الترامبية. ففي مقال نشرته "نيويورك تايمز"، حذرت من غروب الديمقراطية التي ازدهرت في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية، وإخلاء مكانها لتوجهات أوتوقراطية وفاشية يشكل الرجل الذي يجلس بالبيت الأبيض، ترامب، محفزا لها، وكانت قد أودعت خلاصة موقفها حول ذلك طيّات كتابها الأحدث بالتعاون مع بيل وودوورد الذي عنونته ببساطة: "الفاشيّة: تحذير"، إذ يعتبر موضوع أنماط الفاشية موضوعاً خلافياً، حسب يوسف الجنجيهي في صحيفة "إندبندنت". ففي النموذج الذي يقدمه ترامب، فإن ديماغوجيته وتهديداته السابقة لهيلاري كلينتون، وحظره للمسلمين ومنعه لدخول ملايين، بالإضافة لاستهدافه للعديد من الفئات الاجتماعية وهجومه على الإعلام والقضاء، كل ذلك يعتبر من سمات النزعة الشعبوية. مثل هذه النزعات السلطوية قد تنتج تغيرات سلبية، حيث يعبِّر شعار "أمريكا أولاً" الذي افتتح به ترامب خطابه الافتتاحي عن التصور المظلم والمتصلب الذي يضمره.

قد يرى البعض في النزعة الشعبوية الحالية - المتشبعة بالنزعة القومية والحمائية -محاولةً لسحب البساط من الانهيارات القادمة، لذلك فمن غير المفاجئ أن يبدأ الأفراد العقلانيون الأغنياء بالاستثمار في الحُصُون والمخابئ الدفاعية، تحسُّباً لما هو قادم. وبهذا يعرِّف المنظر الشيوعي البلغاري جورجي ديمتروف الفاشية بأنها "ديكتاتورية إرهابية غير محدودة، وهي الأكثر رجعية وشوفينية، وتعبر عن أكثر العناصر إمبريالية في المنظومة الرأسمالية". يمكن أن نستقر على تعريف مفيد للفاشية باعتبارها اندماجاً لسلطتي الدولة ورأس المال؛ في سياق سلطوي يوظِّف العنصرية القومية. وإذا كانت الفاشية تدمج سلطة الدولة بسلطة رأس المال، فهذا يعني أن رأس المال قد بات خاضعاً لترامب، وهذا أمر غير مفاجئ، عندما يأخذ المرء بعين الاعتبار كيف أن إدارته القائمة على الشركات وملاك رأس المال سوف تكون داعمة للمشاريع الاقتصادية بشراسة.

لقد أصبح شبح السلطوية ينتشر في مختلف أرجاء العالم بفضل ترامب، ولكن ما هو مؤكد أن فاشية القرن الحادي والعشرين لن تشابه فاشية القرن العشرين، حسب الجنجيهي. وكما يصوغها هالفورد لوكوك: "في حال أتت الفاشية إلى أمريكا، فلن تكون مختومة بشعار صنع في ألمانيا، ولن تظهر عليها علامة الصليب المعكوف، كما لن يطلق عليها اسم الفاشية، سوف يطلق عليها بالتأكيد اسم الأمريكانوية". قد تكون هذه اللحظة قريبة منا، ولكن ليس بالضرورة أن تتمظهر فاشية القرن الواحد والعشرين عبر معسكرات اعتقال الشرطة السرية (الجستابو) والجِزَم العسكريّة الثقيلة للجنود الألمان. قد تكون الدولة القادمة أكثر سيطرة ضمن سيناريو قريب من تصور جورج أورويل، بدرجة عالية من اللامبالاة والانصياع من ذوات محبطة دون انتماءات سياسية.

أحد المفارقات أن وصف الموجة الترامبية بالفاشية تتكاثر في المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية، وثمة خشية من تناميها مع نتنياهو الذي يوصف كذلك بالفاشية. ففي هذا السياق، أورد شبتاي شفيط، الرئيس الأسبق للموساد، أنه في حال لم يكن زعيم الدولة الديمقراطية يفهم جوهر الديمقراطية، ويدافع عنها ويكون على استعداد للموت في سبيلها، فإنه سيجد نفسه، بعلم أو بدون علم، في النفق الذي يقود إلى الأوتوقراطية والفاشية. والحديث عن الحالة الأمريكية في هذا السياق؛ ينسحب على الحالة الإسرائيلية في عهد نتنياهو، كما يقول شفيط. وقد نشرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية مقالاً قالت فيه: "إن هزيمة ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية خلّصت العالم من الفاشية لفترة من الزمن، وذلك بعد أن قام أدولف هتلر بتدمير القوتين الدكتاتوريتين في كل من اليابان وألمانيا؛ نتيجة جنون العظمة الذي كان تملكه وجميع الأحزاب الفاشية في الغرب، غير أن التيارات العميقة المتغذية على الفكر الفاشي عادت وظهرت من جديد بعد نحو 80 عاماً". ويقول الكاتب الإسرائيلي شامي شاليف، في مقالته التي حملت عنواناً يشير بوضوح إلى قيام ترامب ونتنياهو بركوب موجة المدّ الفاشية، إنه "يكفي أن نتذكر كيف كانت أوروبا في الثلاثينيات من القرن الماضي لتقدير مدى تأثير الحرب. الأنظمة الفاشية التي حكمت البلدان في جميع أنحاء أوروبا، من اليونان وكرواتيا إلى البرتغال وإسبانيا، هؤلاء جميعهم تقاسموا النزعة القومية والكراهية للآخرين واحتقار الديمقراطية والعداء لليبراليين والمثقفين".

خلاصة القول أن الفاشيّة ليست بالتجربة المنعزلة أو الفريدة عبر مجمل التاريخ البشري، حسب وجهة نظر أولبرايت، وإن أخذت أعلى تمثلاتها في إيطاليا موسيليني وألمانيا هتلر بداية من عشرينيات القرن الماضي وحتى مأساة الحرب العالميّة الثانية، فهي تعتبر أن الفاشيّة ابنة التجربة السياسيّة الإنسانيّة، وأنه ليس هنالك بالفعل ما يمنع تدحرج الأمور إلى تلك الهوّة المظلمة مجددا. وهي تنطلق من هذا التصوّر لتسجّل حقيقة تجل تعددي لافت لأوجه التماثل بين الأجواء التي أنتجت تجربة القرن العشرين الفاشيّة القاسية، وما يشهده الغرب هذه الأيّام من انقسامات عالية الاستقطاب بين فئات المجتمع، وتفاوتات اقتصاديّة تتزايد دون أفق بإمكان تقليصها حتى على المدى المتوسط. وفوق ذلك كلّه، موجة السياسيين الشعبويين - ليس في أمريكا وحدها بل عدد متزايد من الدّول عبر المعمورة - ممن يصعدون إلى مواقع السلطة والتأثير عبر التلاعب الاحتيالي على تلك التفاوتات، وتوجيه غضب الطبقات العاملة نحو عدو متخيّل دون توفرهم على أي حلول حقيقيّة للمشاكل البنيويّة العميقة التي أصابت تلك المجتمعات.