كتاب عربي 21

المسألة الجيلية وحركة الإخوان.. النقد الذاتي (41)

1300x600
إن الثورة ترتبط بالجيل، والجيل يرتبط بالثورة. فعملية التغيير هي من المعطيات الأساسية التي تحركها عوامل مختلفة؛ من أهمها فكرة الجيل، وتفاعلها في التأكيد على أن الجيل في حقيقة أمره هو من يحمل فكرة التغيير ورسالته، حيث إنه يمثل نصف الحاضر وكل المستقبل.. هذه الكلمات لا نقولها من باب البلاغة اللفظية، ولكنها تعبير عن حقيقة ديموغرافية، وعن تلك السمات الشبابية التي تحملها المجتمعات العربية، وعلى رأسها المجتمع المصري.

إن الجيل الذي حمل ثورة 25 يناير كان يؤكد أشواق التغيير، وهو بما يحمله من هذه الأفكار، رغم بعض الإحباطات التي تثور هنا وهناك، لا يزال فيه من الشباب ومن الطلاب من يحمل زخم الثورة، ويعتبر هذا الزخم فرصة يجب أن لا تفلت أو تنزوي، ذلك أن ما قامت به ثورة 25 يناير من فتح نوافذ التغيير؛ أكدت أن أمر التغيير الكبير آت لا محالة، وأن عملية الإعداد للتغيير ممزوجة بوعي ومسارات التحريك وعمليات التثوير؛ لهي من الأمور التي لا تزال تسكن معظم هذا الشباب، ليستقر ذلك في وجدانه. ولكن هذا كله لا يزال ينتظر، مع بوادر الأمل شرارة العمل.
الجيل الذي حمل ثورة 25 يناير كان يؤكد أشواق التغيير، وهو بما يحمله من هذه الأفكار، رغم بعض الإحباطات التي تثور هنا وهناك


إحباط الشباب

 

تقليديا، حاول السيسي بانقلابه قتل كل منابع الأمل لدى الشباب المصري، بعد أن أطلق هذا الشباب شرارة ثورة 25 يناير. شكّل هذا الجيل من الشباب مشكلة للعسكر حينما استطاعوا أن يحركوا الراكد، فاستنهضوا حالة ثورية تعبّر عن أحلام هذا الجيل في تغيير كبير. كان السيسي بترؤسه جهاز للمخابرات الحربية؛ يعمل جاهدا إبان حكم المجلس العسكري، وكذلك بعد قيامه بانقلابه الغادر، محاصرة الشباب ومحاولة هزيمتهم، وإحاطتهم بحالة ممتدة من صناعة الإحباط وتصدير فقدان الأمل.

من الجدير بالذكر أننا قد تطرقنا إلى قضية جيل في أكثر من مقام، حتى في تلك السلسلة التي تتعلق بالنقد الذاتي، وقلنا إن الفجوة الجيلية عبّرت للأسف الشديد، ليس فقط عن رؤية من خلال القوى المضادة للثورة حينما جعلت من الشباب خصمها الأكبر وبدت أنها تقوم باستراتيجيات متعددة لمحاولة وأد أمل الشباب في عمليات التغيير، بل في حقيقة الأمر أن خطاب الفجوة الجيلية لم يقتصر على هذه القوى المضادة للثورة، ولكن للأسف الشديد شمل كافة القوى السياسية وتكوينات النخبة المختلفة (إن استحقت هذا الوصف بالنخبة)، وصار الأمر الذي يتعلق بالفجوة الجيلية علامة على تخلف هذه القوى السياسية عن أشواق الشباب والثورة في عمليات التغيير.. كان التفكير الذي يعكس هذه الفجوة الجيلية أمرا عاما، لم يقتصر فقط على الإخوان ولا حركته، ولكن في حقيقة الأمر، فإن موضوع فجوة الجيل كان موضوعا مركبا بالنسبة لحركة الإخوان وتكويناتها والحراك داخلها، والمواقف المختلفة التي تتعلق بمراحل الثورة.

لعل تلك الفجوة الجيلية تعكس هذا الموقف بأحداث محمد محمود، ذلك الموقف الذي أوضح بجلاء أن هناك فجوة في الإدراك، وفجوة في المواقف، وفجوة في التعرف على متطلبات ومعطيات وموجبات عملية التغيير التي تتعلق بالثورة وأحداثها. صحيح أنه كان هناك من الجيل الوسيط من شكل سندا للشباب، ولكن ظلت هذه الفجوة تنتشر بين قيادات تملكها كل ما يتعلق بما أسموه الحفاظ على التنظيم، وبين شباب صار كل ما يهمه هو الحفاظ على الثورة وزخمها. وحينما أشرنا في المقال السابق إلى أن فجوة الأجيال إنما عبرت عن فجوة أفكار، مثل هذا الحدث الذي يتعلق بأحداث الثورة، وأيا كانت المبالغات في هذا الشأن من أطراف عدة غذت بيئة الاستقطاب، إلا أن الفجوة الجيلية وفجوة الإدراك قد شكلت بيئة قابلة وخصبة لكل ما يتعلق بالمسألة الجيلية.

 

تفاعلات جيلية

 
ومن هنا، كانت الدراسة التي قامت بها إحدى الباحثات النابهات، والتي اتخذت عنوانا "الإخوان المسلمون: سياسات الفجوة الجيلية في حقبة ما بعد الثورة"، والتي أكدت في افتتاحيتها أن هذه الدراسة تسعى للكشف عن الديناميات الداخلية من خلال مدخل سيسيولوجي يركز على التفاعلات الجيلية داخل الحركة، وتحديدا رؤى وتصورات جيل الشباب في أعقاب أحداث الخامس والعشرين من كانون الثاني/ يناير 2011؛ تجاه عدد من القضايا (منها: الهيكل التنظيمي وعملية صنع القرار، ثقافة السمع والطاعة إشكالية الدعوي والسياسي، الموقف من الحياة الحزبية، إشكالية الثورة والإصلاح).

ومثلما أكدنا، فإن مثل هذه الدراسات إنما تشكل ساحة ومساحة لممارسة نقد ذاتي واسع لحركة الإخوان وتصوراتها إبان ثورة يناير، ذلك أن مثل هذه الدراسات كسابقاتها تستخدم بصورة منهجية مقابلات مركزة وشبه منظمة مع بعض منتسبي الحركة وأعضائها السابقين، وفي إطار اختيار العينة بناء على معيارين حددتهما هذه الدراسة، الأول هو الموقع الذي يشغله الكادر، أو تلك الخبرة الخاصة وما يمثلها سواء داخل الجماعة أو خارجها، أما الأمر الثاني فيرتبط بثنائية التدرج: "المحافظة والثورية"، بمعنى مدى قبول أو رفض هؤلاء خطاب الجماعة وقياداتها، وهو ما يشير إلى وجود تنوع واختلاف بين شريحة الشباب (الفئة العمرية للشباب) داخل الجماعة، من حيث الرؤى والتكوين الثقافي والخبرة السياسية.

 

تنوعات فكرية

 
ومن المهم أن نؤكد أن استمرارية أي جماعة اجتماعية مشروطة بانتقال الأفكار والأهداف الخاصة بالجماعة بين أجيالها. وقد يطرأ على هذه الأفكار والأهداف تعديلات فكرية ونظرية؛ تنتهي بانتهاء الجماعة نفسها أو إعادة تشكلها في إطار تنظيمي جديد. ولا تختلف جماعة الإخوان في ذلك عن غيرها من الحركات الاجتماعية، خصوصا مع وجود ظرف تاريخي فاصل ومركب في تاريخ الجماعة؛ متمثلا في حالة الثورة وفي توليها السلطة السياسية بصورة مباشرة، وصولا إلى تنحيتها من المشهد السياسي بانقلاب عسكري في فترة وجيزة. وتعتمد هذه الدراسة، مثل غيرها من الدراسات، التعبير الذي شاع، ألا وهو "شباب الإخوان المسلمين"، والذي يشير إلى الأعضاء الشباب الذين هم في سن العشرين إلى الثلاثين أو يزيد قليلا. ورغم أن هؤلاء لا يشكلون وحدة جيلية متجانسة أو متماسكة، بل تشير الدراسة إلى تنوعات فكرية، فإن السياق السياسي منذ أواخر التسعينيات قد شكل الوعي السياسي في كثير من هؤلاء، وغيرت مشاركتهم السياسية في الثورة وغيرها من المبادرات السياسية؛ نظرتهم تجاه دور الإخوان وتكوينهم الأيديولوجي ومواقفهم السياسية.

ومن جملة التهميش الذي صادف تصريحات أو آراء عدد من الكوادر الشبابية المنضمة إلى الجماعة (والتي بدأت تجد طريقها إلى الظهور الإعلامي، إما من خلال الصحف أو من خلال المدونات، وهو ما أخرجها من دائرة أصوات المهمشين نسبيا من الناحية السياسية)؛ أن تلك الآراء لم تجد حظها الوافر من الانتشار والهيمنة على صعيد الخطاب، سواء الخطاب الداخلي لحركة بحجم الإخوان المسلمين أو الخطاب الإعلامي والسياسي في المجال العام المصري. ويعد ذلك مؤشرا على تلك الفجوة الجيلية بوجه عام حيال الشباب من كافة القوى السياسية، ولا تعد حركة الإخوان استثناء في هذا المقام، بل إنها - كما أشرنا - مثلت حالة مركبة من التهميش للشباب في هذا المقام.

غاية الأمر في مثل تلك الدراسات وما شابهها؛ أن تقدم مجموعة من التفسيرات المتعددة والمتنوعة التي حاولت أن تسند إلى تلك العوامل أوزانا مختلفة قد نتفق أو نختلف معها، ولكنها أشارت بحق؛ إلى تلك المسألة الجيلية داخل تنظيم الإخوان التي لها من التاريخ المتراكم والذاكرة التي تشكل هذا التهميش، حتى لو أصرت بعض الخطابات داخل الجماعة أن تتحدث عن تقديم الشباب أو تمكينهم. إن مثل هذه الدراسات أشارت (مع الحالة الثورية وكذلك الحالة الانقلابية) إلى فجوة إدراكية لا يمكن إنكارها، وهو أمر يستحق منا مزيدا من التوقف والتفحص والتبين، خاصة أن -كما ذكرنا- أحداثا تراكمت إبان حكم المجلس العسكري الذي أجاد بمهارة صناعات الفرقة والفوضى، وتغذية بيئة الاستقطاب، مستغلا هذه الفجوة الجيلية ليزيد الاستقطاب استقطابا، ويضيف إلى مشاهد التهميش للشباب مظاهر أخرى. وهذا ما سنحاول الكشف عنه ضمن هذه السلسلة من النقد الذاتي، والتي نتوقف فيها عند حركة الإخوان، لنؤكد أن متطلبات حالة المراجعة وموجباتها تتعلق بكافة قوى المجتمع السياسية منها والمجتمعية.