جذور الصورة المحمودة للثورة
في تقديري.. فإن الصورة "المحمودة"، الراسخة في أذهاننا ووجداننا، لكلمة "الثورة"، تعود إلى ارتباطها (في اللاوعي لدينا) بالخروج على أنظمة استبدادية شمولية، اضطهدت شعوبَها لحقب طويلة.. ومن ثم، فقد اكتسبت كلمة "الثورة" وقعها الحسن في نفوسنا المعذَّبة، التواقة إلى الحرية بالفطرة، وربما لهذا السبب حرص كُتّاب التاريخ في بلادنا على استعمال كلمة "الثورة"؛ لوصف تلك الأحداث التي ترتب عليها تغييرات هامة، أثّرت بصورة أو بأخرى في حاضر البلاد ومستقبلها، أو أسقطت النظام السياسي القائم بـ"أي طريقة"؛ كي يبعثوا شعورا بالفخر لدى النشء، سرعان ما يتبخر إذا ما تعرض لشمس الحقيقة وحرارة الموضوعية.
ليست كل ثورة محمودة!
إن الحقيقة التي ستتجلى لك (عزيزي القارئ) في سياق هذه السلسلة، تقول بوضوح تام، لا لبس فيه ولا غموض:
ليست كل ثورة محمودة، وليس كل عصيان مذموم، وليست كل إطاحة بالنظام خيانة!
وقد يرى البعض في هذا الطرح زعزعة لـ"الثوابت"! أو "انقلابا" على المسلمات الراسخة! إلا أنه في الواقع "ثورة تصحيحية" كان لا بد منها، إذا جاز التعبير؛ كي نسير نحو "الثورة التي نريد" على هُدَىً وبصيرة..
إذ تجب تسمية المسميات بأسمائها الدالة عليها اصطلاحا، لا لغة؛ لتجنب الخطأ "المتعمد" الذي ارتكبه مؤرخونا المعاصرون، وكان له بالغ الأثر في اعوجاج فهمنا، وتشوّه وعينا، وضبابية قراءتنا للأحداث، وارتباك حُكمنا عليها، بل وتسبب (أيضا) في إصابة قطاع عريض من الشعب بالإحباط واليأس؛ اعتقد أن "ثورة" 25 يناير 2011م قد فشلت! وما كانت إلا "انتفاضة" عظيمة من جانب الشعب، و"انقلابا" من جانب العسكر؛ لتمرير صفقة القرن، وتسليم الكيان الصهيوني قيادة المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج، وبات من العَتَه والخبل إنكار ذلك، أو ادعاء غير ذلك. وستكون لنا عودة للحديث عن هذه "الانتفاضة"، تحت عنوان "انتفاضة يناير 2011 .. قراءة أخرى" صمن سلسلة أخرى إن شاء الله.
تعريف الثورة
الثورة (عموما) والتعريف لي:
"كل تغيير جذري، يخلق واقعا جديدا مختلفا عن سابقه، في أي مجال من المجالات (العلوم، السياسة، الفن، الصناعة، الزراعة .. إلخ).
فالانتقال من طور العربة التي تجرها الخيول إلى طور القطار الذي يتحرك بالفحم، ثورة.. ثورة في طبيعة أداة الانتقال، وثورة في إيقاع الحركة، وثورة في درجة السرعة، وثورة في اختصار الوقت.
والانتقال من المَلكية المطلقة إلى المَلكية الدستورية، ثورة.. والانتقال من المَلكية إلى الجمهورية (حقيقة لا ادعاءً)، ثورة.. وهكذا..
إذَن، كل تغيير جذري، في أي مجال من المجالات، هو ثورةٌ "اصطلاحا"، وكل هِياج "بشري أو طبيعي"، هو ثورةٌ "لغةً".
فماذا (إذَن) عن الانقلاب، والاحتجاج، والتذمر، والتمرد، والعصيان، والتظاهر، والانتفاضة، وكلها ألوان من الهياج، والفوران، والغضب، والرفض، أي "ثورة"، بالمعنى المعجمي لكلمة ثورة.. فهل هي كذلك اصطلاحا، أو قريبة من ذلك؟!
هنا يتدخل الفلاسفة وعلماء الاجتماع، للانتقال باللفظ من معناه المعجمي إلى معناه الاصطلاحي؛ كي لا تختلط المسميات ولا المراحل، ولكي يصبح الأمر أكثر دقة ووضوحا، فحسب "موسوعة علم الاجتماع" فإن مصطلح "الثورة" يعني:
"التغييرات الجذرية في البِنَى المؤسسية للمجتمع، والتي تعمل على تبديل المجتمع ظاهرياً وجوهرياً من نمط سائد إلى نمط جديد، يتوافق مع مبادئ وقيم وأيديولوجية وأهداف الثورة. وقد تكون الثورة عنيفة دموية، وقد تكون سلمية، وقد تكون فجائية سريعة، أو بطيئة تدريجية".
ولعله من المفيد الاطلاع على بعض التعريفات الأخرى، التي تحمل المضمون نفسه، أو تقترب منه، أو تضيف إليه، ومن هذه التعريفات للثورة، فإنها:
"عملية حركية دينامية تغيّر البنيان الاجتماعي من صورة إلى أخرى، وأنها تغيير عنيف للحكم القائم يتجاوز القانون" (كرين برنتون، في كتابه "تشريح الثورة").
"محاولات التغيير بالعنف أو التهديد باستخدامه ضد سياسات في الحكم أو ضد الحكام أنفسهم" (هاري ايكشتاين، في مقدمة كتابه "الحرب الداخلية").
"انهيار لحظي أو على المدى الطويل لاحتكار الدولة للسلطة يكون مصحوباً بانخفاض الخضوع والطاعة" (بيتر أمان).
"تغيير غير مشروع للأوضاع المشروعة" (ب . شريكر).
"الإطاحة بنظام سياسي مستقر بصورة عنيفة وفجائية" (كارل فريدريك).
"إحلال نظام جديد محل نظام آخر كان مشروعا، ولا يحدث هذا التغيير بالضرورة عن طريق القوة والعنف" (ل. ب. إدوارد).
"حركة ضد الأوضاع القائمة، تتسم برفض وإنكار ما هو قائم فعلاً، لإعادة تنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس عقلاني" (هيجل، في كتابه "العقل والثورة").
"تحرك جماعي لا يمكن تجاهله، يتضخم بصورة ملحوظة من دون ضمان الاستمرار طويلاً في حالة الفوران، ويتكون أساساً بين الطبقات الأدنى في المجتمع، إذا كان الشعب يعيش حياة مزرية بسبب الفقر في الأساس، إلى جانب نقص الحرية" (إميل دوركايم).
"احتجاجات تأخذ بعداً شعبياً تكسر حاجز الخوف، ومن ثمّ تتحوّل إلى غضب شعبي عارم" (روجر بيترسن، مؤلف كتاب "المقاومة والتمرد").
"تحوّل كبير في بنية المجتمع" (إيرك هوبزباوم).
نخلص من كل هذه التعريفات للثورة (مع تحفظي على معظمها) إلى ضرورة توفر عنصرين "متلازمين"؛ كي ينطبق وصف "الثورة" على حدث جلل، أفضى إلى تغيير الواقع السياسي:
• انتفاضة شعبية استعصت على الاحتواء، ونجحت في إسقاط النظام القائم.
• تغيير جذري في نظام الحكم.
فخروج الجماهير إلى الشوارع ليس ثورة، وإنما تظاهر.. وإذا اتسع واستمر كان انتفاضة.. وإذا استعصت الانتفاضة على الاحتواء، ونجحت في إسقاط النظام القائم، كانت ثورة.. وتغيير النظام القائم في (غياب الشعب) ليس ثورة، وفي ذلك تفصيل دقيق:
فإذا كان النظام القائم "منتخبا انتخابا حرا نزيها" فإن تغييره بأي وسيله، هو "انقلاب"، سواء كان انقلابا مسلحا أو غير مسلح. وإذا كان النظام القائم "غير منتخب" فإن تغييره بأي وسيلة في (غياب الشعب) له وصفان:
الأول: انقلاب.. وذلك، إذا استولت المجموعة التي أسقطت النظام على السلطة، ولم تُعِدْ السيادة إلى الشعب؛ كي يختار سلطته الجديدة، بحرية وشفافية.
الثاني: استعادة السيادة.. وذلك، إذا قامت المجموعة التي أسقطت النظام بالدعوة إلى انتخابات عامة؛ لاختيار سلطة جديدة، بحرية وشفافية، ولم تنافس فيها..
وللتمييز بين "الانقلاب" و"استعادة السيادة"، أسوق (في المقال القادم إن شاء الله) مثاليْن من واقعنا المعاصر.
(يُتبع)
twitter.com/AAAzizMisr
عقد أم قرن من الزمان مر على الربيع العربي؟!
ما هي الثورة؟ تحريرا للمصطلح كي لا نظل نجري في المكان (1-5)