قضايا وآراء

تونس: حرب المناصب ولعبة الكراسي.. قراءة ما بين السطور

1300x600
انتهى سباق المراتب في تونس ليبدأ سجال يسبق التنافس بين كتل وأحزاب معظمها اختارت التَرَوّي في اختيار الحليف الأوحد ضمن وطن لا يهم أن تكون كراسيه من خشب، أو من حديد أو حجارة، ممزوجة بالدماء، أم تجري من تحته السيول، فلا يهم أن يكون بأقدام آيلة للانكسار أو الانهيار، ذا عجلات أو قواعد، لا يهم كل ذلك، فأهم ما في الأمر أنه كرسي يقود للسلطة!

فلا يهم إن كان كرسيا بما يحمله من ديكتاتورية وجبروت وطغيان، يحمل فوقه شخصا معدوم الضمير والإحساس، لا يهمه إن قتل، أو سفك أو أجرم، أو يَتّمَ الأطفال، أو قَتَل أَو رَمّّلَ النساء، أو جَرَحَ أَوْ هَدّمْ .. فالمهم أن يبقى جالسا عليه، ومتربعا على عرش ساسة وأهل البلد، آمرا وناهيا، حاكما بذئابه ومحاطا بأنصاره، و مدعوما بديمقراطية في ظاهرها سليمة، وبين ثناياها يكمن داء يبقى بموجبه مسيطرا ومهيمنا، وحاكما إلى "أبد الآبدين".

لابد لكل واحد منا أن يعترف أن ما يدور حولنا في تونس بعد الانتخابات من أفلاك هي لعبة تقاسم للكراسي.. أبطالها معروفون.. حكام، ورؤساء أحزاب، ودول، وأصحاب نفوذ، وحتى من المرتزقة.. الكل وضع نصب عينيه هدف الوصول إلى كرسي وسط القصور، والخدم من حوله.. ليبدأ مباشرة "الحج" إلى بلاط السُّلطان ليدشن هذا الأخير دوران عجلة موسيقى التَغَوُّل والتَسَلُّط وغرس الأنياب، وسفك الدماء.

ليعزف في الأثناء صاحب الموسيقى على أنغام الديمقراطية المغشوشة وسط دموع الشعب المسكين الذي اختار جلاده بكلتا يديه، بعد ترويعه بشماعة الإعلام، ليتحصل حينها صاحب الكراسي من الحصول على الضوء الأخضر، لنشاطه كلاعب برتبة مخضرم وبمقام لص شريف، بعد أن تحاور مع أحدهم وليعود مرة أخرى إلى البلد ليسرقه من جديد، لكن تحت مُسَمّى توافق في ظاهره تصالح وبداخله مصالح وفي مجمله نفاق .. فلا مراقب ولا حسيب، ولا حتى مجيب.. الكل مشغول بالرقص حول الكراسي حتى لو كانت أشواكا أو مصنوعة من حديد..

في خضم هذا الزخم الحاصل يفرح صاحب الموسيقى، ويحمل مزماره، ويَنْظُمَ شعره، وسط تشابك اثنين من الراقصين بهراواتهم، ليُجْهِزَ واحد على الآخر، يكون بموجبه هذا الأخير مُنشرح الصدر متَّسع القلب، ويكون أكثر بهجة إن تخلص من كليهما.. 

تتزايد فرحته أكثر فأكثر إن تعالت صرخات المشجعين وسط تشابك أنصارهما في انتظار أن يتحول البلد إلى حرب دامية.. فيتطاحن البعض ليكسر شوكة الآخر.. وما أن يكاد يصل أحدهما للكرسي أو كلاهما ويجلس عليه، حتى تعود في الأثناء تلك الموسيقى التي يعزفها فيعود الجميع للرقص والركض حول كرسي الحاكم، لينضم النائب قبل الوزير، والفقير قبل الغني، إلى قائمة الراقصين، يمتص بموجبه الحاكم دماء الشعب ليزداد ثروة وتخمة وحجما .. حتى يثقل جسمه الهرم فتثقل حركته، وينسى حينها أنه قد تضخم في الحجم، وصار فارغ التفكير وشارد الذهن، ليسهل في هذه الأثناء دفعه من بقية المتسابقين، ويذهب بعيدا عن اللعبة، منفيا خارج الوطن، وقد سرق خيراته، فيمارس لعبة الكرسي، ولكن بشكل جديد، تحت مسمى سلطة الديمقراطية التي قد نَغْتَرُّ بهالتها في البداية، لنكتشف في النهاية أن الكرسي ليس إلا خدعة رسمها صاحب الموسيقى في خيال المستمعين، وأن لعبة الكراسي ليست إلا رسما في السياسة مثلها مثل أي نشاط إنساني آخر.

ليس هناك أشد ضررا من أوهامه الناجمة عن تكوين فكري واجتماعي، ينزع إلى التهوين أو التهويل، خاصة إبان الأزمات والمعضلات، وسط الأزمات السياسية على غرار ما تمر به التجربة الديمقراطية التونسية الحالية، التي تدفعنا مرة أخرى إلى التمعن جيدا، وإعادة الحسابات بشكل دقيق، خلال دراسة التحالفات الحالية في ظل عالم يشهد ثورة في الاتصالات والمعلوماتية، والمواقع الاجتماعية، ويرزح تحت وصاية قطب واحد دون سواه، لنكتشف أخيرا أن في السياسة ليس هناك عدو واحد، أو صديق دائم، بقدر ما هناك مصالح تفرض، ومجتمع يراقب، وآمال تُعَلّقْ..

لكن في النهاية، و على الرغم من ذلك، سيبقى وطني أجمل الأوطان، رغم تعاسة نخبته..