مثلما يحدث بشكل متواتر، خاصة منذ سنوات الثورة، تنتفض الجهات الداخلية في تونس على الدولة المركزية، وتطرح مطلب التشغيل، ليس من زاوية مطلبية تقليدية، لكن من باب مساءلة المنظومة الهيكلية للبلاد والدولة.
انتقل رئيس الحكومة في الأيام الأخيرة مع نصف حكومته لولاية تطاوين، وهي أقصى ولايات البلاد، والتي تعرف أعلى نسب البطالة فيها، للتفاوض بشكل مباشر مع الشباب المعتصمين وسط الصحراء، الذين أغلقوا محور طرقات أساسي يعرف بـ”الكامور” لشبكة النقل المرتبطة بما يفوق مئة شركة بترول.
فالولاية هي أهم المناطق النفطية في تونس، والمسألة هنا كما هي في ولايات أخرى: الولايات الأكثر تفقيرا وتهميشا منذ دولة الاستقلال هي الحاضنة للثروات الطبيعية للبلاد. المواجهة بين أهالي الولاية والدولة، وهي سلمية نموذجية، تتركز حول الكليات: كيف يحق للتونسيين التصرف في ثرواتهم الطبيعية. المسالة هي جرح عميق نتج عن إهمال الدولة المركزية التي سلمها المواطنون في أقاصي البلاد مهمة تسيير وتصريف الثروات الطبيعية.
ما يحدث في تطاوين يطرح بشكل جذري موضوع طريقة الحكم، وليس فقط مسالة التنمية. إذ إن المسالة الاقتصادية، بما في ذلك التشغيل، من هذه الزاوية هي مسألة مدى عمق ثقة المواطن في دولته المركزية، وهي أيضا مسالة إلى أي حد في عصرنا الراهن يمكن بناء ديمقراطية بدون سلطة محلية.
مرت الهيكلة الديمقراطية للحكم عبر التاريخ بمراحل معقدة وطويلة. إذ كانت في مراحلها التأسيسية الأولى في العصر العبودي في البحر المتوسط متكيفة مع وضع اللامساواة بين مجتمعين، الحر والعبودي. الديمقراطية في نشأتها كانت صيغة لتنظيم الحكم بين الأحرار لضمان استمرار العبودية. عندما تفجرت الثورات الكبرى الأوروبية والشمال أمريكية في الفترة الحديثة تم استعادة الصيغة الديمقراطية للحكم لإعادة تنظيم العلاقات الاجتماعية بما يسمح للفئات الاجتماعية الجديدة الصاعدة تحديدا طبقة التجار-البنكيين الحضرية لخرق احتكار الحكم من قبل ملاكي الأراضي، ومن ثمة نشأ مفهوم المواطنة بما هو صفة أي شخص تجاه الدولة المركزية تحذف خصوصيات فئة اجتماعية على حساب البقية.
هذه الثورات لم تفعل بشكل فوري مبدأ المساواة بين المواطنين وكان علينا أن ننتظر للقرن العشرين حتى يصبح فعلا لجميع المواطنين مهما كانت اختلافاتهم الجندرية أو العرقية-الثقافية حق التصويت والترشح.
غير أن ذلك كان عموما باستثناء بعض النماذج الفيدرالية أو اللامركزية نموذج الدولة المركزية الديمقراطية. في عصر تهاوي احتكار الدولة للمعلومة والفضاء التواصلي وتصاعد تأثير كل فرد أو مجموعة في المسار العام اصبح من المستحيل الحفاظ على نموذج الدولة المركزية الديمقراطية. وربما من إسهامات ثورات الربيع العربي هو تحديدا هذا المستوى من تهرئة أسس الدولة المركزية في شكلها الاستبدادي المتعفن والخاضع للوبيات داخلية وخارجية، وطرح البديل الجذري أي المرور بشكل حثيث إلى دولة ديمقراطية لامركزية. فالانتقال الديمقراطي يصبح في سياق التوتر الاجتماعي الحالي الذي يخلق هويات مركزة في سياقها المحلي يصبح بلا معنى إذ تم التمسك بهيكل الدولة المركزية الذي استعملته منظومة الاستبداد والفساد لعقود طويلة.
نتفق هنا مع البعض الذي يقول إن المشكل سياسي وليس فقط اقتصاديا في تطاوين. لكن ثمة فرق في تشخيص السبب السياسي. هذا البعض يقول إن المشكل في النظام السياسي المشتت.. ويقترحون في المقابل إصلاحه من خلال إلغاء النظام البرلماني الحالي، وتعويضه بنظام مفرط في المركزية بيد شخص واحد أي الرئيس الحالي على أساس أن يوسف الشاهد رئيس حكومة فعلا وعلى أساس أن السبسي لا يحكم فعلا. لمشكل ليس في مركزة النظام السياسي بل على العكس في المضي بأسرع ما يمكن نحو السلطة المحلية. المشكل هو عدم الثقة في النظام القديم الذي حكم وهمش هذه الجهات لعشرات السنين، والسلطة المحلية هي القادرة على إعادة الثقة للناس.
هناك خلل هيكلي في العلاقة بين الدولة المركزية وهذه الولايات القصية والمهمشة. وهو أمر واضح ليس فقط بنسبة بطالة مرتفعة لكن أيضا بغياب الدولة، غياب فروع مؤسسات عمومية أساسية، فولاية طاقية بامتياز لا يوجد فيها تمثيلية للمؤسسات العمومية المعنية للطاقة. تغيير صبغة ارض من فلاحية إلى عقارية تجارية يستوجب التنقل لمئات الكيلومترات نحو العاصمة اكثر من مرة. لا يوجد أي تمثيلية لمؤسسات الدولة المركزية في موضوع أساسي بالنسبة لولاية نفطية أي موضوع البيئة.
في المقابل طرح الشباب المعتصم مطالب هيكلية مثل مكتب في الجهة بمثابة حكومة مصغرة يمثل اهم الوزارات بالنسبة للمنطقة لمتابعة القرارات التي تم التوصل إليها، وموقع إلكتروني يتابع بشكل شفاف كل مطالب العروض بالنسبة لشركات البترول ويعطي أولوية للشركات المحلية. وهذا يطرح بشكل أساسي المسؤولية الاجتماعية المحلية للشركات البترولية الأجنبية المستثمر في المنطقة، ويعيد طرح الحاجة لضريبة محلية تخصص نسبة من الأرباح لتنمية المنطقة.
المشكل في الثقة في منظومة الحكم، وليس في الحكومة الحالية فحسب، لكن الأخيرة تقوم بصب الزيت على النار عندما لا تفهم هذه اللغة المختلفة وتقابلها بإجراءات روتينية، ما تسبب في طرد رئيس الحكومة. وتعمق طبقة الحكم الحالية الشرخ بالإصرار على محاولة تمرير قانون التطبيع مع الفساد الذي طرحه الرئيس السبسي.
هناك رؤيتان الآن للديمقراطية والتنمية، واحدة متخلفة متقوقعة في الماضي آتية من نخبة الحكم التقليدية، والأخرى بصدد التشبيك بين الفئات الشبابية وتتطلع إلى صيغة متجددة للحكم والتنظيم، ومن ثمة منهجية مختلفة في التنمية.
الحكم المحلي أو السلطة المحلية هي بالفعل إجابة من شأنها الحد من أحادية النظام المركزي و تعرضه في كل قرار سياسي إلى ضغوط أيادي خبيثة هي نفسها التي حملت تونس إلى الهاوية ومن مصلحتها التحفظ على الثراء المسلوب يبقى السؤال هياكل الحكم المحلي..؟وحدود تأثيرها و تأثرها بالقرار السياسي المركزي المنظم لمجموعة السلط المحلية؟