لم يكن ما حدث فجر السبت في مدينة عدن القديمة (كريتر)، مفاجئاً بالنسبة للمراقبين. فإحراق أحد المقرات الحزبية التابعة للتجمع
اليمني للإصلاح، كان نتيجة متوقعة لحملة واسعة من التحريض الممنهج ضد هذا الحزب، الذي للمفارقة كان أحد الأهداف المباشرة لإسقاط صنعاء في 21 أيلول/ سبتمبر 2014 من قبل المخلوع صالح والحوثيين، وهم الطرف الذي يدعي الحراكيون أنهم قاتلوه في عدن.
لكن المسألة في اعتقادي تتجاوز هذه الحالة من الشيزوفرانيا (الفصام) التي وقع فيها الحراك طيلة صراعه المبتذل مع أعداء لا مشكلة واضحة له معهم. إلى ترتيبات تفتقد إلى الرشد من جانب دولة مثل الإمارات، التي تعتقد أنها تعرضت لضربة موجعة نتيجة القرارات الرئاسية الأخيرة التي أطاحت باثنين من أهم رجالها المخلصين في عدن.
أرادت الإمارات ربما تعقيد المشهد فيما يفترض أنها العاصمة المؤقتة لليمن، بوسائل عديدة بعد أن سقط رهانها الذي انعقد على "مليونية البيان التاريخي"، تلك المليونية الخائبة التي فضحت الخط الحراكي وأدخلته مأزقاً لا سابق له، وأظهرت عمق الانقسامات التي تعصف بهذا الحراك المتعدد الولاءات.
يبدو أن خيار تنصيب الإصلاح شيطاناً سياسياً خلال هذه المرحلة يمثل مخرجاً مناسباً للمضي قدماً في خطة تقويض مهمة الرئيس والحكومة التي جاءت هذه المرة محمولة على آمالٍ عراضٍ بنجاح محافظ عدن الجديد عبد العزيز المفلحي القريب من الرياض وصاحب الخبرة الإدارية والاقتصادية في إعادة عدن إلى سياقها التاريخي كمدينة عالمية لتجارة الترانزيت ومرجل للتعايش بين مختلف المكونات الاجتماعية اليمنية والإثنية والدينية.
تستثمر الإمارات في خطتها هذه إرث التحريض الكبير الذي تغذى طيلة السنوات الست الماضية من الكراهية الشديدة للإصلاح خصوصاً من جانب الحراكيين الممولين من إيران وأولئك الذي ارتبطوا بمشروع المخلوع صالح وعملوا لصالحه.
وتحرك كهذا لا يمكن فصله عن معلومات نشرتها صحيفة الثورة الموالية للحوثيين في العاصمة صنعاء، وتفيد بأن الإمارات رفعت الإقامة الجبرية عن نجل المخلوع صالح سفير اليمن السابق لديها، أحمد علي عبد الله صالح، ما سمح بذهابه إلى السويد. غير أن خبرا كهذا يبقى في طور الشائعة بالنظر إلى التعقيدات القانونية الناتجة عن خضوع أحمد صالح لعقوبات مفروضة من مجلس الأمن بموجب القرار رقم 2216 الصادر عن المجلس تحت الفصل السابع، لكن مغزاه واضح، وهو المزيد من التعقيدات السياسية والابتزاز المفضوح للشرعية اليمنية ممثلة بالرئيس هادي.
تُدين اليمن بكل التغييرات التي تحدث فيها اليوم إلى فائض القوة الذي توفرت دائماً بحوزة أصحاب القضايا الخاسرة، إنها المعادلة الاستثنائية التي أبقت رئيساً بلا إمكانيات ولا جيش ولا ظهير جهويا يحسم المعركة لصالح المشروع الوطني.
ذلك الرئيس هو عبد ربه منصور هادي، الذي كان قد تجاوز منعطفاً خطيراً في صنعاء، حينما حاصرته في شباط/ فبراير 2015 قوات المخلوع صالح الضاربة في صنعاء، تساندها ميلشيا الحوثي التي بنيت فكريا وحركياً على الاثني عشرية للحرس الثوري الإيراني، وأجبرته على الاستقالة قبل أن تتمكن المخابرات السعودية والأمريكية ربما من تأمين خطة إجلائه من منزله المحاصر بشارع الستين بغرب العاصمة صنعاء إلى مدينة عدن التي أعلنها في 21 شباط/ فبراير 2015.
لقد أفرغ الجميع قوتهم وإمكانياتهم التسليحية، في وجه خصم لا يمكن أن تحسم المعركة معه بالانتصار الكامل ولا يمكن أن تبنى عليه مكاسب في ظل ارتهان الأزمة والحرب في اليمن لمرجعيات لا يمكن للأطراف الخارجية قبل الداخلية تجاوزها.
وقد رأينا كيف تصاعدت الأحداث في اليمن إثر قيام قوات صالح والحوثيين بانقلاب السادس من شباط/ فبراير 2015 وإعادة الانتشار العسكري لقواتهما المرابطة في مختلف محافظات البلاد على نحو أوحى بأن الحوثيين هم من قام بالاجتياح والانتشار والسيطرة وما أن كادت الأمور تستقر بالنسبة لهم حتى حدث ما لم يكن بالحسبان. فقد انحسرت قوة الانقلابيين وتضاءل تأثيرهما الميداني بعد تدخل التحالف العربي عسكرياً في الأزمة اليمنية، فجر السادس والعشرين من شهر آذار/ مارس من عام 2015.
كانت حجة التحالف هو دعم شرعية الرئيس هادي وحكومته، وإنهاء الانقلاب واستعادة الدولة التي تسمح بعودة كامل الصلاحيات الدستورية للحكومة الشرعية.
لكن ثمة تباين بدأ يبرز على سطح الأداء العسكري للتحالف، عندما بدأت القوة الثانية في هذا التحالف تشق طريقاً مختلفاً تماماً أساسه الاتساق مع الأهداف الأمريكية والتبني الكامل لطموحات الحراك الجنوبي المرتبط بإيران في استعادة الدولة على عكس ما قضت به مخرجات الحوار الوطني الشامل، وهي أحد المرجعيات الثلاث للحل السياسي في البلاد، إلى جانب اتفاق المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، وقرارات الشرعية الدولية وعلى رأسها القرار رقم 2216.
استطاعت الإمارات طيلة العامين الماضيين أن تمارس ضغطاً سياسياً وعسكرياً وأمنياً على السلطة الشرعية في العاصمة السياسية المؤقتة عدن، وأجبرت الرئيس على تعيين محافظ ومدير لمحافظة عدن من المحسوبين عليها، وتعيين عضو في الحكومة لم يمارس مهامه في إطار الأجندة الحكومية منذ أدى اليمنين الدستورية أمام الرئيس وانصرف بكل جهده للعمل تحت مظلة القوات الإماراتية كأحد آمري لواء الحزام الأمني الكبير العدد وصاحب المهمة الأمنية المتضخمة والذي تحول إلى أهم وأكبر جهاز أمني قمعي في جنوب البلاد.
عمل هذا اللواء إلى جانب الوحدات الأمنية التي تشكلت تحت قيادة محافظ عدن المقال اللواء عيدروس الزبيدي ومدير الأمن اللواء شلال شائع، كأدوات كرست حالة غير منضبطة في العاصمة السياسية المؤقتة، وضيقت الخيارات أمام الحكومة المركزية التي واجهت صعوبة حتى في تسكين وزرائها وفي تأمين المقرات، وفي تشغيل المرافق السيادية وفي مقدمتها المطار والميناء وفق ما هو مخطط له.
كان الهدف هو التعطيل المتعمد والمقصود لوظيفة عدن السياسية والجيوسياسية، بحيث لا تتحول إلى ملاذ آمن وإلى نقطة انطلاق عملياته ولوجستية للجيش الوطني التابع لوزارة الدفاع صوب المحافظات الواقعة في الشمال والشمال الغربي للبلاد، فجرى فصل العمليات العسكرية التي دارت في المحافظات الجنوبية وفي الساحل الغربي بشكل كامل عن غرفة عمليات وزارة الدفاع، وخضعت بالكامل لأوامر القادة العسكريين الإماراتيين.
إنها مرحلة جديدة كلياً في عدن، وهذا يعني أن المحافظ الجديد ومن خلفه الحكومة على وشك إحداث نقلة تأخرت كثيراً، أو أن مساراً جديداً يمضي في الاتجاه المضاد ويُغرق عدن أكثر فأكثر في الفوضى وإن حدث ذلك فقد يأذن بانفراط عقد التحالف الذي لا نزال نراه متماسكاً.