تعلق قلبي الشاعر
المصري الراحل
أحمد فؤاد نجم، بعد أن اطلعت على ديوانه الأول "يعيش أهل بلدي"، في أوائل سبعينيات القرن الماضي، وكنا نتداوله سرا، لأنه كان في نظر العديد من الحكومات من "المحرمات".
فكما أحمد مطر، فقد كان نجم يقول شعرا يجمع بين الحدة واللطافة، ويصلح لانتقاد الأحوال في جميع الأمصار العربية، وفي جميع العهود، فكما هو معلوم فإن وجوه وأسماء حكامنا تتغير، ولكن "عمايلهم" متطابقة.
وفؤاد نجم، هو الذي أطلق على نفسه اسم
الفاجومي، وشرح معناها: "تستخدم في العامية المصرية للدلالة على الشخص المندفع اللى يقدر يقول ـ-يا غولة عينك حمرا- بالسهولة ذاتهلا اللي يقول بيها كلمة سلامو عليكو".
وكان نجما جسورا في التصدي لطواغيت مصر، وظل يخرج من سجن ليدخل في آخر، ولكنه لم يعرف الانحناء قط، بل كان يقول إن الوطن بأكمله سجن كبير، فما الضير في البقاء في جزء صغير من ذلك السجن؟
وتقرأ شعر نجم الذي كتبه قبل أربعة عقود، فتحسب أنه يكتب عن حال مصر الراهن، أنظر مثلا قوله:
إحنا مين و هما مين
إحنا الفُعلا (العمال) البنايين
إحنا السنة وإحنا الفرض
إحنا الناس بالطول والعرض
من عافيتنا تقوم الأرض
وعرقنا يخضر بساتين
حزر فزر شغل مخك
شوف مين فينا بيخدم مين؟
هما الأمرا والسلاطين
هما الفيلا و العربية
والنساوين المتنقية
حيوانات استهلاكية
شغلتهم حشو المصارين
حزر فزر شغل مخك
شوف مين فينا بياكل مين
هل تصدق أن هذا شعر قاله في عصر أنور السادات، وتغنى به الشيخ إمام (توفي في يونيو 1995)؟
ثم انظر كلماته التالية، وحاول أن تعرف هل هو يتكلم عن السادات أم ناصر أم مبارك أم السيسي أم قراقوش أم الحاكم بأمره؟
أنا مابخفش وحفضل أقول
كلمة حق عليها مسؤول
إن الريس راجل طيب
وبشعبه دايما مشغول
يجوعكو لجل تخسوا
آه يا شعب محتاج لرجيم
من جهلكو بتقولوا بطالة
وإن الأحوال مش شغاله
دا الراجل نفسه يريحكم
أما حكاية المنتجعات
ليه بتسموها معتقلات؟؟؟؟
ليه الظن.. وسوء النية
نفسه يفسحكوا يا بهوات
كان نجم يكره المطربة الراحلة أم كلثوم، ويعتبرها صنما صنعته حكومة ناصر، لتخدير الشعب لساعات، في سهرة حية، تتواصل لسنوات عبر الإذاعة والتلفزيون.
وقال فيها:
يا ولية عيب اختشي
يا شبه إيد الهون
دا انت اللي زيك مشي
يا مرضعة قلاوون
مدحت عشرين ملك
وميت (100) وزير ورئيس
مروان وعبد الملك والمفتري ورمسيس
بتغني بالزمبرك وللا انت صوت إبليس
من أول المبتدا حتى نهاية الكون
(ويقال إن جماعة الأمن قالوا لعبد الناصر إنه المقصود بـ"المفتري"، فكان تعقيبه: قليل أدب بس دمه خفيف).
ثم حاول تنشيط المادة الرمادية التي تملأ رأسك، لتعرف من المعنِيّ بقول نجم:
والله إنتو ظالمين الراجل
وضيع عمره ومين يستاهل
حتى الأكل بياكله بدالنا
طالع واكل نازل واكل
ماله الريس بعد دا كله؟؟؟
وخذ في الاعتبار أن هذا مقطع من قصيدة كتبت قبل انقلاب السيسي في تموز/ يوليو 2013، بنحو ثلاثين سنة، ولكن لو أن مصريا ردد هذا الكلام في منبر عام اليوم، لوجد نفسه في مكان يصعب على الدبان الأزرق الوصول إليه.
"قال لك ثم الجهل مصيبة
مولف ويا العيا تركيبة
تشرب منها تعطش تاني
تشرب تعطش خمسة في ستة
مية نار لو طالت جتة
لازم تحلس اتخن حتة..
يعني العقل يا خلق الله
آدي وجعنا وآدي دواه!!
هل هناك ما هو أبلغ من هذا، للتعبير عن محاولات استعباط الشعب وتجهيله وتضليله بإلغاء عقله؟ أم تراه يتحدث عن جهل الحاكم؟ إنه كلام حمّال أوجه.
قد تجد الإجابة في قوله:
هما الأمرا والسلاطين
هما مناظر بالمزيكا
والزفة وشغل البوليتيكا
ودماغهم طبعا استيكا
بس البركة بالميازين
حزر فزر شغل مخك
شوف مين فينا بيخدع مين؟
(بمعنى أن الحاكم الذي يحسب أنه يأكل بعقل المصريين حلاوة أي يستعبطهم).
ولكن دعهم في غيهم يعمهون:
هما بيلبسوا أخر موضة
واحنا بنسكن سبعة في أوضة
هما بياكلوا حمام وفراخ
واحنا الفول دوخنا و داخ
هما بيمشوا بطيارات
واحنا نموت بالاوتوبيسات..
هما فصيلة وإحنا فصيلة
(هذه تختزل كل شيء: حكام ليسوا منا، ولسنا منهم).
ومن أبلغ وأبدع ما كتب نجم في مطلع السبعينيات أرجوزة قصيرة، تحكي كيف يتسلق المنافقون وماسحو الأجواخ الى مراقي السلطة والمناصب الرفيعة:
شعبان البقال
عقبال الأنجال
أتوظف واتنضف
واتعدل له الحال
من بعد الجلابية
والفوطة الدبلان
في رقبته المهرية
من فرط الأكلان
بقى صاحب عربية
وعمارة ودكان
وسألت الخضرية
وبتوع الدخان
ع الحكمة الأزلية
في نظافة شعبان
وعرفت أن أخانا
شعبان ابن بهانة
اتجوز فنانة
واتعين فنان
أحمد فؤاد نجم، من شعراء قلائل، كانوا ضمائر شعوبهم وأمتهم.