يلح بعض الكتاب على دعوى أن نظم الحكم في التاريخ الإسلامي - بعد الخلافة الراشدة - لم تكن نظما إسلامية، وأنها كانت سياسية وفقط، وليس لها من الإسلام إلا الاسم.
وفي الحوار مع أصحاب هذه الدعوى ننبه على ضرورة التمييز بين "النظم" وبين "مرجعيات" هذه "النظم"، فنظام الحكم هو مؤسسات الدولة والسلطة - مثل مؤسسات التشريع والقضاء والتنفيذ - وهذه المؤسسات دائما مدنية، يصنعها الناس ويطورونها، ولم ينزل بها الوحي من السماء، أما الذي يميز بين نظام وآخر فهو "المرجعية" التي ترجع إليها هذه "المؤسسات" ففي الإسلام وحضارته وتاريخه كانت المرجعية لهذه النظم والمؤسسات هي الشريعة الإسلامية وفقه معاملاتها - أي القانون الإسلامي - وفي تاريخ نظام الحكم في حضارتنا لم يحدث أن كانت هناك "مرجعية" لهذه النظم غير الفقه الإسلامي - بصرف النظر عن الكمال والنقصان في تطبيق هذا القانون، ولم يحدث وجود مرجعية منافسة للقانون الإسلامي إلا في عصرنا الحديث عندما جاء قانون نابليون إلى بلادنا في ركاب الاستعمار.
وفي البرهنة على إسلامية الفقه الذي حكم حضارتنا ونظمنا، وتميز إسلاميته عن وضعية وعلمانية القانون الروماني ومشتقاته كتب مستشرقون كثيرون كانوا أساتذة في قانوننا الإسلامي وفي القانون الروماني، وعلى سبيل المثال:
فالمستشرق الإيطالي "دافيد دي سانتيلانا" (1845 - 1931م) - الذي كان فقيها في المذهب المالكي والمذهب الشافعي وفي عموم الشريعة الإسلامية وفي القانون الروماني، والذي درس كلا القانونين في الجامعات الشرقية والغربية، يتحدث عن تميز الفقه الإسلامي - الذي حكم تاريخنا - بالإسلامية عن وضعية وعلمانية القانون الروماني، فيقول: "إن معنى الفقه والقانون، بالنظر إلينا - الغربيين - هو مجموعة من القواعد السائد التي أقرها الشعب، إلا أن التفسير الإسلامي للقانون هو خلاف ذلك، فهذا القانون، الذي يوزع العدالة بالقسطاس على الجميع، إنما يستند إلى الإيمان القويم، ولذلك فإن الخضوع لهذا القانون إنما هو واجب اجتماعي وفرض ديني في الوقت نفسه، ومن ينتهك حرمته لا يأثم تجاه النظام الاجتماعي فقط، وإنما يقترف خطيئة دينية أيضا، وفي هذا القانون الإسلامي ترسم الأخلاق والآداب في كل مسألة حدود القانون، وبذلك جاء الحديث النبوي: "ما ليس لله فيه سهم ليس للمرء فيه حق" وبذلك يبلغ هذا القانون مرحلة "الحق المطلق" الذي هو أساس المجتمعات المتمدنة قاطبة، إنه قانون إلهي المصدر بشري الهدف، والشرع الإسلامي الذي يستهدف منفعة المجموع، هو في جوهرة شريعة تطورية غير جامدة، خلافا لشريعتنا الرومانية، ولهذه الميزات فإننا نضعها في أرفع مكان، وتقليدها أجل مديح علماء القانون".
هكذا حكم هذا الخبير العالمي في فقهنا وفي الفقه الروماني "بإسلامية" الفقه الذي حكم نظم الحكم في تاريخنا، والذي استمدت هذه النظم إسلاميتها من إسلاميته.
أما المستشرق الألماني الحجة "شاخت" (1902 - 1969م) - الذي شغل كرسي الأستاذية في العديد من حامعات الشرق والغرب - فإنه يقول: "إن من أهم ما أورثه الإسلام للعالم المتحضر قانونه الديني "الشريعة"، التي تختلف اختلافا واضحا عن جميع أشكال القانون، إنها قانون فريد في بابه، وهي أبرز ما يميز أسلوب الحياة الإسلامية، وهي لب الإسلام ولبابه، إن التشريع الإسلامي قانون ديني، ومع ذلك فإنه من حيث الجوهر لا يعارض العقل بأي وجه من الوجوه، ويتجلى في الشريعة الإسلامية نموذج بليغ لما يمكن أن يسمى "قانون الفقهاء" فقد أنشأه وطوره فقهاء متخصصون أتقياء، كما تقدم مثالا لظاهرة فريدة يقوم فيها العلم القانوني لا الدولة بدور المشرع وتكون فيها لمؤلفات العلماء قوة القانون".
هكذا شهد الشهود العدول بإسلامية القانون، الذي منح الإسلامية لنظم الحكم عبر تاريخ الإسلام.