كشف تحقيق لـ "بي بي سي" بيع شركة بريطانية أجهزة مراقبة وتعقب شامل لدول عربية استخدمتها في قمع الحريات وملاحقة الناشطين والمعارضين لا سيما دولة
الإمارات العربية المتحدة.
وكأحد ضحايا هذه الأجهزة أبرز التحقيق قضية الناشط الحقوقي الإماراتي أحمد منصور الذي أنفقت حكومة بلاده أموالا طائلة لتعقبه ومراقبة حياته الخاصة، والذي أوضح بدوره كيف تمكنت سلطات أبو ظبي من اختراق حسابه عبر برنامج وهمي.
وسجن منصور ثمانية أشهر في ظروف تعسفية، وبعد المقابلة التي أجرتها معه "بي بي سي"، اختفى منصور ليتبين لاحقا أنه قيد الإخفاء القسري في سجن الصدر في أبو ظبي دون توجيه تهمة له.
وبحسب التحقيق فإن شركة "بي أيه إي سيستمز" البريطانية للصناعات الدفاعية عقدت صفقات ضخمة لبيع تكنولوجيا تجسس متطورة لعدد من دول الشرق الأوسط، من بينها دول أنظمة حكم قمعية، وتضمنت إحدى هذه الصفقات بيع أنظمة فك شفرات يمكن استخدامها ضد
بريطانيا وحلفائها.
وأعربت منظمات حقوقية وخبراء في الأمن الإلكتروني عن مخاوفهم الشديدة من إمكانية استخدام هذه التكنولوجيا المتطورة في التجسس على ملايين الناس أو قمع أي شكل من أشكال المعارضة.
وبدأ التحقيق في بلدة نورساندباي الدنماركية، مقر شركة "إي تي آي" المتخصصة في صناعة أجهزة التجسس المتطورة.
وطورت الشركة نظاما أطلقت عليه اسم "إيفدنت" قادرا على تمكين الحكومات من القيام بعمليات مراقبة جماعية لاتصالات مواطنيها.
وتحدث أحد الموظفين السابقين في الشركة، عن طريقة عمل نظام إيفدنت.
وأضاف: "ستكون قادرا على اعتراض أي نشاط على الإنترنت، وإذا أردتَ القيام بذلك في دولة بأكملها، فستستطيع. يمكنك تحديد مواقع الناس من خلال بيانات هواتفهم المحمولة، كما يمكنك تتبع الناس من حولهم. هذه الوسائل تستخدم تكنولوجيا متقدمة إلى حد كبير في التعرف على الأصوات. تلك التكنولوجيا كانت قادرة على فك الشفرات".
نظام بن علي
ويكشف التحقيق أن نظام زين العابدين بن علي في تونس من الزبائن الأوائل الذين اشتروا النظام الجديد.
وقال مسؤول تونسي: "إي تي آي ركبت هذا النظام. وجاء المهندسون لتنظيم دورات للتدريب على استخدامه. يعمل النظام بكلمات دالة. أنت تدخل اسم معارض من المعارضين، ثم تراقب جميع المواقع والمدونات والشبكات الاجتماعية المرتبطة بذلك المستخدم".
ويقول المسؤول إن الرئيس بن علي استخدم النظام لقمع المعارضين حتى الإطاحة به في شباط/ يناير 2011، فيما اعتبرت أول انتفاضة شعبية انطلقت بعدها موجات الربيع العربي بالمنطقة.
جدران وهواتف "لها آذان"
وفي الوقت الذي امتدت فيه الاحتجاجات إلى أنحاء العالم العربي، باتت وسائل التواصل الاجتماعي أداة رئيسية لمنظمي هذه الاحتجاجات.
وبدأت الحكومات في البحث عن أنظمة تجسس إلكترونية أكثر تقدما، ما فتح سوقا جديدة مربحة للشركات العاملة في هذا المجال، مثل "بي أيه إي سيستمز".
وفي عام 2011، اشترت "بي أيه إي سيستمز" شركة "إي تي آي" وأصبحت الشركة فرعا لها.
وخلال الخمس سنوات التالية، استخدمت "بي أيه إي سيستمز" فرعها في الدنمارك لتوريد أنظمة إيفدنت لكثير من دول الشرق الأوسط التي لديها سجلات مثيرة للجدل في حقوق الإنسان.
وأوضح التحقيق أنه بموجب قوانين حرية الاطلاع على المعلومات، تم الكشف عن عمليات تصدير لكل من السعودية ودولة الإمارات العربية وقطر وعمان والمغرب والجزائر.
وبينما لم يكن ممكنا الكشف مباشرة عن حالات فردية ترتبط بنظام إيفدنت، كان لمستويات التجسس الإلكتروني المتزايدة تأثير مباشر وبالغ على تحركات نشطاء حقوق الإنسان والمدافعين عن الديمقراطية في الكثير من الدول التي اشترت "إيفدنت".
وفي مقابلة مع يحيى عسيري، ضابط سابق بسلاح الجو السعودي وفر من البلاد بعد نشر تعليقات على الإنترنت مؤيدة للديمقراطية قال إنه: "لن يكون من قبيل المبالغة لو قلت إن أكثر من 90 في المئة من أنشط المشاركين في حملات سياسية في عام 2011 قد اختفوا الآن".
أما الناشطة منال الشريف فتقول إنه ليست هناك دول تراقب مواطنيها بالطريقة التي تراقب بها
دول الخليج مواطنيها.
وتقول منال الشريف، الناشطة الحقوقية السعودية التي تعيش هي الأخرى خارج البلاد: "استُخدم (النظام الجديد) ليكون الجدران التي لها آذان، والآن الهواتف الذكية هي التي لها آذان".
وأضافت: "ليست هناك دولة تراقب مواطنيها بنفس الطريقة التي تقوم بها دول الخليج. إنهم يمتلكون المال، لذلك في استطاعتهم شراء برامج التجسس المتقدمة".
ودفع هذا الوضع المنظمات الحقوقية والنشطاء إلى التعبير عن مخاوفهم البالغة على مستقبل المجتمع المدني في الشرق الأوسط.
ويحذر جاس هوزين، من منظمة "بريفاسي إنترناشيونال"، وهي منظمة غير حكوميّة في بريطانيا تعنى بالدفاع عن خصوصية الأفراد على الإنترنت، من أن "التجسس سيقوض ثقة الناس في تنظيم الأفكار والتعبير عنها ومشاركتها في محاولة لخلق حركة سياسية".
خطرة على بريطانيا نفسها
ويشير التحقيق إلى توفير النسخة المحدثة من النظام إمكانية أخرى، هي فك الشفرات، أو تحليل الشفرات، إذا استخدم المعنى الفني.
وتتيح هذه النسخة من النظام قراءة الاتصالات حتى إذا استخدمت فيها برامج أمنية لتشفيرها.
ويعتبر تحليل الشفرات أداة قوية ما جعل تصديرها يخضع لقيود شديدة.
منذ عام 2011، كثّفت دول الخليج جهودها للحد من أي معارضة من خلال سن قوانين صارمة للتصدي لجرائم الإنترنت.
ويكمن هذا القلق في أن هذه البرامج قد تمنح مستخدميها إمكانية الوصول إلى الاتصالات البريطانية نفسها.
ويقول روس أندرسون، أستاذ هندسة الأمن في جامعة كامبريدج: "بمجرد بيع الجهاز إلى شخص ما قد يمكنه القيام بما يريده به".
وأضاف: "دولة عربية ما تريد شراء أجهزة تحليل الشفرات بزعم أنها ستخصصها لأجهزة إنفاذ القانون بها. هذه الدول لديها سفارات في لندن وواشنطن وباريس وبرلين. ما الذي سيوقفهم عن وضع أجهزة تجسس كثيرة في مدننا ثم استخدام أجهزة تحليل الشفرات لفك رموز المكالمات التليفونية التي يسمعونها؟".
وعلى الرغم من اعتراضات الجانب البريطاني، وافقت الهيئات الدنماركية على تصدير "إيفدنت".
وينقل التحقيق عن خبراء في الشؤون الأمنية قولهم إنه بينما تواجه دول كثيرة في أنحاء العالم تهديدات إرهابية متزايدة، ثمة تبرير واضح لمبيعات أجهزة المراقبة والتجسس.
غير مقبول
وتعتبر النائبة الهولندية، ماريتج سكايك، واحدة من السياسيين الأوروبيين القلائل الذين أبدوا استعدادهم لبحث المخاوف الناجمة عن تصدير تكنولوجيا المراقبة والتجسس.
وتقول إن الدول الأوروبية ستدفع في النهاية ثمن التنازلات التي تقدمها الآن.
ومضت قائلة: "مع كل حالة يُكمّم فيها فمٌ أو ينتهي الأمر بشخص إلى السجن بمساعدة تكنولوجيا تبتكرها دول الاتحاد الأوروبي، أعتقد أنه أمر غير مقبول".
وقالت: "أعتقد بأن تلك الشركات تلعب في حقيقة الأمر أدوارا تجارية، لذلك فإن تطوير التكنولوجيا المتقدمة التي يمكن أن يكون لها تأثير بالغ على أمننا القومي وعلى حياة الناس أمر يتطلب النظر مرة أخرى في أي نوع من القيود التي يجب فرضها عليها، وأي نوع من الشفافية والمساءلة اللازمة في هذه السوق قبل أن تنقلب ضد مصالحنا ومبادئنا الخاصة.