من يتتبع التاريخ السياسي الفلسطيني منذ العام 1917 حتى يومنا؛ سيجد أن هذا التاريخ وما مر به من حقبات سياسية قد حملت معها انقساما فلسطينيا. ففي عشرينيات القرن الماضي كانت الزعامة السياسية الفلسطينية محصورة في العائلات الإقطاعية والكبرى في فلسطين، مثل آل النشاشيبي وآل الحسيني في القدس، وعبد الهادي وارشيد في جنين.
وكان الصراع الأكبر على هذه الزعامة بين آل النشاشيبي وآل الحسيني. وعندما احتدم الصراع بينهم، قاد فخري النشاشيبي تيارا مناهضا لتيار الحاج أمين الحسيني، فكان فخري يذهب نحو مهادنة الإنجليز، بينما الحاج أمين الحسيني يتجه نحو المقاومة الشعبية.
واستمر الصراع سياسيا إلى أن اندلعت الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، والتي جمعت كل شرائح المجتمع تحت لوائها. وهكذا توحد الشعب الفلسطيني تحت راية الثورة، إلى أن خرج من أصلاب هذه الثورة من يغرد خارج السرب، ويشكل ما سمي بـ"فرق السلام"، وذلك بقيادة فخري عبد الهادي وفخري النشاشيبي اللذين التقت مصالحهما وتعطشهما للزعامة مع مصالح الإنجليز، فأخذا على عاتقهما إعداد هذه المجموعات بتسليح وتدريب إنجليزي بهدف مطاردة الثورة والثوار، حيث اندلعت معارك كبرى مع الثوار، وكان التنسيق الأمني بين تلك الفرق والإنجليز على مستوى عال، وهذا ما يؤكد أن مسألة التنسيق الأمني ليست طارئة، وإنما لها جذورها الملتصقة بكل انبطاحي. واستمرت هذه الفرق تقاتل حتى انتهت الثورة، وبعدها تم اغتيال فخري النشاشيبي وفخري عبد الهادي عقوبة على خيانتهما.
أما إذا ما ذهبنا إلى تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة، والتي انطلقت في العام 1965 وأنهت سلطة العائلات وصارت هناك سلطة واحدة للشعب الفلسطيني وهي سلطة المقاومة وممثلة شرعية له في كل المحافل الدولية، فقد عبرت هذه الثورة عن إرادة الشعب الفلسطيني، حيث التف حولها في كل مواقعه في الوطن والشتات، إذ علقوا آمالهم عليها بالعودة. وما إن اندلعت الثورة والتفت الجماهير حولها ونضجت، خاصة بعد الخروج من الأردن، وإلا بانقسام يحل على هذه الثورة، وذلك نتيجة قرارات المجلس الوطني الفلسطيني التي تمثلت ببرنامج النقاط العشر، والتي قبلت في إقامة سلطة فلسطينية على أي أرض محررة من فلسطين. فحينها حصل أول انقسام وتشكيل جبهة الرفض لمواجهة هذا البرنامج، وتكونت من الجبهة الشعبية والجبهة الشعبية القيادة العامة والصاعقة وجبهة النضال الشعبي. وهذا يعد أول انقسام في منظمة التحرير يقوم على أساس الموقف من الاحتلال الصهيوني والحلول السلمية. وإذا تأسست هذه الجبهة من أجل أهداف نبيلة، لكن وقعت بعض فصائلها في شباك النظام السوري الذي استغلها وجعلها أداة يستخدمها للاستحواذ على القرار الفلسطيني، وقد أدى هذا الانقسام والانحراف إلى مواجهات دموية في طرابلس عام 1983، والتي كانت أطرافها الصاعقة والقيادة العامة وفتح الانتفاضة التي انشقت عن حركة فتح بقيادة العقيد سعيد مراغة من جهة وحركة فتح من جهة أخرى. وهكذا تعزز الانقسام المبني على الموقف من النظام السوري.
وما أن اندلعت انتفاضة الحجارة عام 1987 حتى التحمت الجماهير الفلسطينية وفصائلها في هذه الانتفاضة، كما قد ولد من رحمها الحركات الإسلامية التي تجسدت في حركة الجهاد الإسلامي وحركة حماس. وهكذا استمرت الوحدة إلى أن دخلت منظمة التحرير إلى نفق أوسلو ودخول السلطة الفلسطينية والأجهزة الأمنية الى الضفة الغربية وغزة، فحدث انقسام جديد مبني على أساس معارضة أوسلو والموقف من الاحتلال. وقد قاد المعارضة لأوسلو؛ حركة حماس التي أصبحت المنافس الرئيسي لحركة فتح على مستوى الجماهير الفلسطينية، وقد قامت في تلك الفترة الأجهزة الأمنية بملاحقة كل من يعارض أوسلو عمليا، وليس من عارضها كظاهرة صوتية. فأي شخص يقوم بعمل مقاوم يتم اعتقاله، وقد مرت هذه الاعتقالات بحالات إعدام أو قتل تحت التعذيب، وقد استمر هذا الانقسام على حاله إلى أن اندلعت انتفاضة الاقصى فعاد الشعب وفصائله بالالتحام مع الانتفاضة، بل حتى ضباط من الأجهزة الأمنية، منهم قادة التشكيلات العسكرية لحركة فتح مثل مروان زلوم وجهاد العمارين ورائد الكرمي، والقائمة تطول. وقد أدى هذا الانخراط ودعمه من قبل الشهيد ياسر عرفات إلى توقيف التنسيق الأمني، حيث وصل إلى قناعة تامة بفشل الحل السلمي مع الاحتلال، وهذا ما لم يرق للأمريكان والصهاينة؛ ليحدثوا انقساما فلسطينيا جديدا كانت ساحته حركة فتح نفسها، فدب صراع ما بين أبو عمار من جهة وأبو مازن وحليفه دحلان آنذاك من جهة ثانية، بدعم أمريكي.
وما إن استشهد ياسر عرفات حتى خاض الشعب الفلسطيني انتخابات رئاسية وتشريعية، كان نتاجها فوز محمود عباس بالرئاسة وفوز حركة حماس في المجلس التشريعي، ما مكنهما من تشكيل حكومة فلسطينية فقامت الدنيا عليهم ولم تقعد، وأطبقوا الحصار عليهم، وانقطعت الرواتب، وانتشرت فرق الموت التي كانت من أهدافها زعزعة الأمن، وزادوا الضغط عليهم للاعتراف بأوسلو ونتائجه، وبخارطة الطريق والتي كلها تقوم على الاعتراف بشرعية الاحتلال الصهيوني، فحاولت حماس الدفاع عن إنجازها وعن نفسها من خلال حسم عسكري شهدته قطاع غزة، ما أدى إلى انقسام فلسطيني فلسطيني نتج عنه اعتقالات في غزة لعناصر من حركة فتح، ومنعهم من أي نشاط واعتقالات وملاحقات لعناصر حماس في الضة الغربية، وظهرت لدينا أجهزة أمنية فلسطينية جديدة تحت تدريب وإشراف إمريكي من خلال الجنرال دايتون، وهكذا عاد الانقسام الفلسطيني الفلسطيني مبنيا على الموقف من الاحتلال.
من هنا نجد أن الانقسام الفلسطيني ليس وليد الساعة، ولم يكن عمره عشرة سنوات فقط، وإنما هو انقسام تاريخي مبني على الموقف من الاحتلال، إلا أننا يمكن أن نقول أن هذا الانقسام الأخير هو الأعمق والأكثر جرحا واستمرارا، حيث حظي كل طرف من أطراف الانقسام بسلطة وجغرافية يفرد عليها سلطته. ففي الضفة الغربية السلطة الفلسطينية وحركة فتح، وفي غزة السلطة لحماس.
ومن هنا نخلص أيضا إلى أن الوحدة الفلسطينية وعبر التاريخ لا تكون إلا على أرض المعركة، ولا لحمة ولا التحام ولا مصالحة إلا على أرض المعركة وأن الباطل والحق لا يجتمعان فالنار لا تجتمع مع الماء، ونخلص إلى أن أي محاولة للمصالحة إن لم تكن مبينة على أساس الموقف من الاحتلال ومن المقاومة؛ تكون عبارة عن محاصصة لا مصالح. وخير شاهد تلك المصالحات التي عقدت في اليمن وقطر ومصر، والتي انتهى بها الأمر إلى الفشل. فمن يرهن نفسه للاحتلال وللأمريكان لا يمكن إلا أن يكون خادما مطيعا، حيث دوما يكون الطلب الرئيسي الاعتراف بقرارات الرباعية الدولية، فلماذا هذا الطلب؟ وهل باتت الرباعية ناطقة باسم الاحتلال ولا تجرؤ على أن تخطو أي خطوة دونه؟ فهذا هو الواقع أبو مازن يقدس التنسيق الأمني، ولا يريد انتفاضة، ويريد أن يبكي على شركائه "الإسرائيليين" ولا نتجنى عليه بهذا الحديث، فهذا ما قاله بنفسه.
وإذا ما ذهبنا لمصير غزة والضفة في هذا الانقسام، فالممارسات التي تستخدم من قبل السلطة الفلسطينية ترسم سيناريو ترسيخ فصل غزة وعزلها عن الضفة، واعتبارها كيانا متمردا. ومن الشواهد على تلك الممارسات قضية كهرباء غزة، وقضية رواتب الأسرى ورواتب الموظفين وغيرها.
أما الضفة الحزينة المقيدة بسلاسل التنسيق الأمني المقدس يتم العمل على عزلها وطنيا وسياسيا، فبينما يتم ملاحقة المقاومين واعتقالهم في الضفة، يتم استرجاع أي جندي صهيوني تائه وتسليمه للاحتلال. وبينما تغلق الجمعيات وأي مؤسسة يشتبه بأنها تتبع لحماس ينعم، الاحتلال بمزيد من مصادرة الأراضي وإقامة المزيد من المستوطنات، ولم يعد الانقسام الفلسطيني في الضفة محصورا بين حماس والسلطة وحسب، وإنما أدخلت السلطة في حساباتها الجهاد الإسلامي، وخير شاهد على ممارسات السلطة بحق الشيخ خضر عدنان ومحاولات اعتقال الشيخ محمود السعدي في مخيم جنين.
أما عن المصالحة التي يشاع عنها اليوم أنها قائمة بين دحلان وحماس، فإن صحت فسؤالنا حينها لحماس: هل بات فتح معبر رفح هو قضيتنا؟؟ نقدر حجم الظلم الواقع على أبناء غزة جراء الحصار ولكن لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، فهل من كان يعتقل ويشكل فرق الموت؟ ومن كان رأس التنسيق الأمني امس سيجتمع معكم اليوم على أرضية المقاومة؟ وهل بات دحلان منسلخا عن الاحتلال؟ فالأنظمة التي تدعم دحلان هي على نفس نهج السلطة الفلسطينية، ومهما اختلف مع عباس فخلافه معه ليس على المصلحة الوطنية، وإنما هو الخلاف على تقاسم المصالح والامتيازات الممنوحة من التنسيق الأمني المقدس. وأخيرا إذا ما عاد دحلان إلى غزة، فهل سيعود ليشتغل بكم خمسة بلدي كما صرح حين الفوز؟؟ فالقضية الفلسطينة هي أكبر بكثير من قضية فتح معبر وإنما هي قضية وطن محتل يحتاج لبرنامج عمل وطني مقاوم.
كثيرة هي التساؤلات التي يمكن طرحها، ولكن يبقى السؤال الدائم: نحن إلى أين ذاهبون؟؟