لا يوجد تعريف واحد لفكرة الحزب، فهو يعتمد على أيديولوجية المُعرِّف، فالحزب في الفكر الليبرالي هو مجموعة من الأفراد في شكل تنظيمي لهم مصالح وأفكار مشتركة ويحاولون الوصول للسلطة أو الاحتفاظ بها عن طريق الجماهير.
أما الأحزاب
الماركسية، فتعرف الحزب على أنه تنظيم يوحد الممثلين الأكثر نشاطا بطبقة معينة، ويعبر عن مصالحها ويقودها في الصراع الطبقي، وهناك تعريفات أخرى متعددة إلا أنها تتمحور جميعا حول هذه المحاور "التنظيم- الأفكار- السعي للسلطة- الجماهير).
والأحزاب السياسية هي أحد منتجات التطور الاجتماعي والسياسي في كل مجتمع ويعتمد مدى قدرة الحزب على النجاح في قدرته على امتلاك العناصر الأربعة المشكلة للحزب السياسي، بالتالي فإن العودة إلى نشأة الأحزاب السياسية في كل مجتمع قد تدلنا على الإجابة على سؤالنا حول
الأحزاب العربية ولماذا لا يمكنها البقاء إلا عندما تسقط في أحضان السلطة؟
يشير بعض المؤرخين إلى أن الأحزاب السياسية موجودة منذ زمن بعيد بدون أن يطلق عليها هذا الاسم إلا أن كل مقومات التعريف المعاصر موجودة بها، فمثلا يرى بعض المؤرخين أن التاريخ الإسلامي منذ العهد الأموي تحديدا بدأ ظهور "أحزابا" طبقا لهذه المحاور الأربعة.
بالتأكيد هناك تحفظات على استخدام مصطلح حزب على أي تشكيلات فكرية أو تنظيمية تاريخية، حيث أن أي مصطلح لا ينبغي التساهل في إسقاطه على المشاهد التاريخية السابقة لظهوره.
وما يمكن قوله إن المحاور الأربعة التي تصف التنظيم السياسي -سمه ما شئت- ظهرت مبكرا في التاريخ الإسلامي وغيره، فقد تنوعت الأفكار الحاكمة لفرق إسلامية متعددة، إلا أن جميعها كانت تحت مظلة الدين الإسلامي مرجعية حاكمة لكافة الأفكار، كما أنها شكلت تنظيمات وحاولت الوصول للسلطة أو على الأقل التأثير على قراراتها والتحمت بقطاعات جماهيرية.
وما نريد توضيحه هنا، أن تلك التشكيلات السياسية ظهرت نتيجة وقائع اجتماعية محددة وتطور البناء المجتمعي واتساعه، واستطاعت إنتاج تنظيمات منتمية لمجتمعاتها، وكلما كانت تلك التشكيلات السياسية ناتجة من داخل المجتمع من ناحية التنظيم والأفكار؛ كلما كان ارتباطها بالجماهير واحتمال بقائها أطول وأكثر عمقا.
لهذا وجدنا الكثير من التوجهات الفكرية والتنظيمية القديمة اختفت مهما كانت تبدو قوية.
أما الأحزاب السياسية في صورتها الحديثة، فقد نشأت حصرا في المجتمعات الغربية نتيجة التغييرات الحادة التي حدثت في أوروبا، وقد بنيت الأحزاب بشكلها الحديث من داخل البرلمانات ومن لجان الناخبين، فكل من كان له فكر متقارب داخل البرلمانات تجمع سويا كما حدث في الجمعية الوطنية الفرنسية.
كما أن كل الناخبين تجمعوا لتأييد مرشحهم، وأدى ذلك إلى تكوين نواة قوية متماسكة للأحزاب، إذ إنها تم بناؤها من الأسفل إلى الأعلى حيث أن القواعد الجماهيرية هي التي كونت الحزب وقياداته كما أن تجمع القيادات كان بناءا على اختيار جماهيري وتوافق أفكار حقيقي داخل البرلمانات.
والأحزاب نشأت أيضا من تطور العمل النقابي أو غيرها من التنظيمات الاجتماعية، فهي بالتالي تحقق التوافق مع الأفكار الجماهيرية السائدة وملتحمة بالجماهير. الخلاصة، إن الأحزاب السياسية الغربية سواءا الماركسية أو
الليبرالية كانت ابنة مجتمعاتها.
أما المجتمعات العربية الحديثة التي نتجت بعد انتهاء عصر الاحتلال، الذي فَتَّت النظم الاجتماعية والسياسية القديمة وترك المجتمعات العربية والإسلامية في حالة من التنازع الحاد بين نظام قديم تم تدميره.
ولكن بقيت آثاره العميقة في التاريخ موجودة داخل المجتمع بأشكال متعددة ونسب متفاوتة من ناحية؛ وبين نظام جديد يحاول بناء المجتمع مطابقا لما يراه صحيحا.
والحالة
المصرية تبدو نموذجا يمكن القياس عليه لمحاولة الإجابة على السؤال؛ لماذا لم تنجح الأحزاب العربية؟
باستعراض المحاور الأربعة للتنظيمات السياسية "ليست فقط الأحزاب" يمكننا الإجابة.
من ناحية التنظيم، فكل ما يتم بناؤه تنظيميا بداية من القيادة ثم التحرك للبحث عن القواعد فهو معرض سريعا للسقوط أو على أقل تقدير يصبح غير قادر على مواجهة الضغوط التي قد يتعرض لها، ونتيجة للبدايات غير الصحيحة لبناء الأحزاب بمفهومها الحديث في مصر، ولأنها لم تكن ناتجة عن تطور اجتماعي أو سياسي حقيقي داخل المجتمع المصري؛ فقد أدى ذلك إلى صعوبة إنتاج تنظيم حزبي قوي قادر على أن يكون نموذجا حقيقيا لفكرة الحزب الصحيح.
ومن ناحية الأفكار، فقد حاولت الأحزاب المصرية؛ وبالتأكيد العربية؛ إنتاج برامج طبقا لأيديولوجيات متعددة، إلا أنها عانت كما يعاني كل المجتمع من حالة الفصام التي لا نجد لها حلا بين تراث ثقافي وحضاري كبير لا زال حيا في نفوس وعقول الجماهير من ناحية، مع نظام حكم ومنظومة سلطة نتجت من عهود احتلال طويلة لا يمكنها التوافق مع هذا التراث.
فمنها من انحاز تماما للتراث، وبالتالي أصبح غير متوافق مع نمط السلطة والمجتمع المفروض فرضا، أو انحاز للنمط ففقد الجماهير أو حاول الجمع بين الاثنين، ولا أعتقد أن هذا نجح أو مقدر له النجاح نظرا، كما أرى؛ لعدم قدرة الفكر الإسلامي أن يتوافق مع نموذج السلطة المعاصر.
هذه الأفكار تؤدي إلى أن التيار الثاني هو المُؤهَّل للدخول في مساحة السلطة، إلا أن الأزمة أنه بلا قواعد جماهيرية، كما أن أفكاره ليست لها عمق أو امتداد مجتمعي، بالتالي فقد الكثير من مقومات التنظيم السياسي بل ربما أهمها وهي البناء من القواعد إلى القمة وليس العكس وبهذا يصبح بقاءه مرتبط فقط ببقاء السلطة كماهي، كما أنه أيضا لا يمتلك جماهير.
هذان العاملان حتى مع وجود أيديولوجية للحزب تجعله يفقد جوهر وجوده وهو التعبير عن المجتمع، ويصبح حزبا نخبويا لمجموعة من أصحاب الأفكار، إلا أنها ليست مرتبطة بالجماهير، ففقد العنصر الرابع.
إن عدم نجاح فكرة الحزب السياسي "بشكله الحديث" في المجتمعات العربية ليست ناتجة عن عدم قدرة المجتمع على التنوع أو الخلاف السياسي، ففكرة التنوع السياسي فكرة قديمة تاريخيا في المجتمعات العربية، ولكنها بالأساس ناتجة عن التشوه الكبير الحادث في المجتمعات العربية الناتجة عن عهود الاحتلال التي فرضت نموذجا ما علينا غير متوافق تماما مع التطور الاجتماعي والسياسي لمجتمعاتنا -حتى لو رأى البعض أنه النموذج الأفضل- ولذلك فإن فكرة الأحزاب يمكنها أن تصنع التغيير الآن ليست مطروحة.
ويجب أولا معالجة التشوه الحادث في مجتمعاتنا بين نماذج مفروضة ومحاولات بناء جديدة تتحسس طريقها، ومن يمكنه فعل ذلك بالتأكيد تنظيمات مجتمعية ولكنها ليست أحزابا سياسية وهذه الأحزاب ربما يكون لها دور ما بشكل جديد أوبشكلها الحالي ولكن بالتأكيد بعد إنهاء المعركة المصيرية الحالية، بين استمرار التشوه الحاد أو النجاح في علاج التشوه بصناعة نماذج متوافقة مع التاريخ والحضارة والهوية.