تتداول الأوساط
الفقهية مفهوم "طاعة
ولي الأمر وحرمة الخروج عليه" في سياق نقد الثورات الشعبية، وتسويغ اعتزال النشاط السياسي. وتختلف الآراء حول هذا المفهوم بين من يتهمه بتبرير
الاستبداد ودعوة الناس إلى الخنوع، وبين من يرى فيه ضرورة لحفظ استقرار البلاد وأمنها ودفع الفتنة.
"ولي الأمر".. طاعة ومناصحة
ورأى الباحث السوري في الفكر الإسلامي، عماد العبار، أن "استدعاء مفهوم طاعة ولي الأمر؛ يقوم على تصور خاطئ للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، يخالف سنة الخلفاء الراشدين في العصر الإسلامي الأول".
وأوضح أنه "وُضعت شروط دقيقة للبيعة في العصر الإسلامي الأول؛ تقوم على شقين، الأول تحريم منازعة الأمر أهله، والشق الثاني هو إلزام المسلمين بقول الحق وأن لا يخاف واحدهم في الله لومة لائم"، كما يقول.
وأضاف لـ"
عربي21": "لكن الشق الثاني الخاص بمواجهة وتقويم الحكام؛ تم تجاهله في التطبيقات التي حصلت بعد عصر الراشدين، وذلك حين أصبح الحاكم قدَرا لا تجوز معاندته في بعض المراحل، أو حاكما بأمر الله في مراحل أخرى، وهذا ما يتم تجاهله أيضا عند استحضار مفهوم (ولي الأمر) في وقتنا الراهن من قبل بعض الجماعات والأنظمة التي تسعى إلى توظيف النصوص بما يخدم في تكريس استبدادها".
وحول كيفية استغلال الحكام المستبدين لهذا المفهوم؛ بين العبار أن "الأنظمة بغريزتها السلطوية تعمل دائما على تعزيز الفهم السلبي الذي يمكن من خلاله السيطرة على وعي الجماهير، وفي سبيل هذا الهدف فإنها تسعى دوما إلى تقريب أصحاب الفهم الخاطئ لمسألة ولي الأمر، والمحذّرين من القيام بأي حراك شعبي ضد تجاوزاتها".
وتابع: "في المقابل؛ تحاصر السلطة أصحاب الفهم الإيجابي، وقد تضطر إلى اعتقالهم أو قتلهم إذا أدى وجودهم إلى تحفيز وعي الناس بحقوقهم على السلطة، وواجباتها تجاههم"، وفق رأيه.
تغير النظام السياسي
من جانبه؛ لفت الباحث في الفكر السياسي الإسلامي، محمد الصياد، إلى تباين البناء الاجتماعي والسياسي، بين العصر الإسلامي الأول الذي ظهر فيه مفهوم "ولي الأمر" وبين الواقع الراهن.
وقال لـ"
عربي21": "في الفقه القديم؛ كانت طاعة ولي الأمر جزءا من منظومة فقهية متكاملة، فكان الفقهاء يشترطون في ولي الأمر أن يكون فقيها مجتهدا أمينا ثقة ورعا، ويشترطون فيه أن يكون صاحب شوكة وغلبة، بمعنى أن تتلقاه الأمة بالقبول عن طريق القبائل والعشائر الكبيرة، فيعمّ الأمن والهدوء، نظرا لعدم وجود آلية في ذلك العصر للعمل المؤسسي الموجود اليوم، أو آلية لمشاركة كافة الجماهير في صناعة القرار السياسي".
وأضاف: "أما حديثا؛ فقد تغيرت تلك المنظومة، وتوزعت مهام الحاكم على المؤسسات التي نشأت مع الدولة الحديثة، فصار هناك مؤسسات قضائية وتشريعية وتنفيذية، فأصبح السمع والطاعة في العصر الحديث للقوانين والدساتير، وليس للحاكم الذي يخضع للقانون مثله مثل أي فرد من أفراد الشعب، وباتت مقبولية المؤمنين متمثلةً في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي يشارك فيها الجمهور بكافة أطيافه، بدلا من الصورة القديمة التي كانت تكتفي بمقبولية القبائل والعشائر الكبيرة النافذة كممثل للأمة كلها".
ورأى الصياد أن "أي استدعاء للمنظومة الفقهية الكلاسيكية، في ظل تغير العوائد والأعراف وهياكل الدولة وبنية المجتمع؛ يعد اجتهادا زائفا، لا يعتد به في الفقه السياسي الحديث، ولا في القواعد الفقهية والأصولية"، وفق تقديره.
مفسدة الخروج على الحاكم
من جهته، رأى الداعية محمد بن محمد الأسطل؛ أن طاعة ولي الأمر واجبة، وإلا لاختل نظام الناس، وتعثرت استقامة أحوالهم، كما يقول. لكنه يستدرك قائلا: "على أن الأمراء لهم مهمتان كبريان كما يقرر الفقهاء: سياسة الدين والنهضة بالدنيا، فمن أخذ برعيته فيهما فطاعته واجبة، ومخالفته محرمة." وفق رأيه.
وأضاف الأسطل لـ"عربي21": "جماهير السلف أجمعوا على مخالفة الأمير الذي عصى الله في رعيته، ما لم يكن الضرر العائد على الرعية أكبر مما كانت عليه، فتحريم الخروج عند ذلك إنما هو لمصلحة المسلمين أنفسهم لا حاكمهم".
ودافع الداعية الأسطل عن فتاوى العلماء بحرمة الخروج على الظالم؛ بأنها "لمصلحة المسلمين إذا لم يقدروا على إزالة الظلم بذلك، فإن استطاعوا رفع كفره الظاهر وظلمه البارز دون أن يتضرروا هم جاز لهم"، وفق اعتقاده.
وفسر الأسطل كثرة الكتب التي تحرم الخروج على ولي الأمر؛ بأنها جاءت في بيئة كان العلماء يرون فيها شدة بطش الأمراء بالرعية عند أي حادثة، فأفتوا بحرمة الخروج انطلاقا من الحرص على سلامة الناس.
وأوضح الأسطل أن "العنصر المقدس عند الفقهاء في تقرير الأحكام السلطانية هم الرعية وما يصلح لها من أحكام الدين، لذلك أجازوا نصح الحاكم ثم خلعه أو الخروج إلا إذا كانت المصلحة التي قصدوا إليها يقابلها زيادة مفسدة في حقهم، فعند ذلك يحرم عليهم ذلك من أجل أنفسهم، لئلا يزيد الضرر بهم"، وفق قوله.