غداة انطلاق
الثورات العربية من تونس تميزت ردود الفعل في
الغرب، ابتداء بالارتباك، وبمحاولة إسعاف الديكتاتور التونسي وتقديم "الخبرات" اللازمة لجهازه البوليسي، سعيا لمنع سقوطه، مرورا بحالة من الدهشة والتردد إزاء "الظاهرة" الثورية غير المتوقعة، والمتصاعدة والمنتشرة بسرعة في هشيم الأنظمة المستبدة والفاسدة، والتي حظيت على الدوام بالدعم الكامل من الدول الغربية...
تلت ذلك مرحلة "الاحتواء"، والتي زخرت بكم كبير من التصريحات الإيجابية تجاه الوضع الجديد، دون تقديم أي دعم حقيقي ملموس، وكانت الغاية الحقيقية منها تخدير النخب الجديدة التي أعادتها الثورة من غياهب الاستبداد ومحارقه، وإيهامها بأن القبول بالديمقراطيات الناشئة خيار محسوم لا عودة عنه، وإغرائها بتناسي الماضي القريب والشراكة الدامية للغرب مع الاستبداد الهالك... ثم انتهى الأمر بالغرب عموما إلى العودة إلى مربعه المعتاد بتقديم الدعم الحازم وغير المشروط لقوى الردة في مصر، والإشراف على الانقلاب ومن ثم مؤازرة الطغمة العسكرية، مع ما يمثله ذلك من رسالة سلبية واضحة لبقية الشعوب العربية.
حدث ذلك رغم التحذيرات المتكررة حينئذ؛ بأن إفشال طموحات الشعوب العربية في نيل الحرية والكرامة وفي إقامة نظم ديمقراطية مستقرة لن يؤدي إلى استعادة الدكتاتوريات الفاسدة والتابعة، بل سيفضي إلى دمار ستتجاوز آثاره حدود البلدان العربية وتهدد الأمن والاستقرار في الغرب ذاته، عبر موجات الهجرة المتوقعة من جهة، واستشراء آفة ما سمي بالإرهاب من جهة أخرى..
والآن، وقد مرت قرابة السبع السنوات على اندلاع الثورة العربية من تونس، وأربع سنوات عجاف على موجة الردة الدموية التي انطلقت من مصر، وما آل إليه وضع الثورة السورية التي تم تحويلها إلى تغريبة عربية أشد وأنكى من التغريبة الفلسطينية، وتدمير اليمن السعيد على يد الديكتاتور المخلوع وحلفائه الطائفيين، وتفجير الوضع الليبي مع السعي الفاشل لاستنساخ الوضع السوري بزرع داعش وأخواتها في سرت ثم في الجنوب الليبي، يبدو موقف الغرب الرسمي وقد استقر على خيار تدل عليه كل المؤشرات الموضوعية. إذ يبدو أن صناع القرار في الغرب يفضلون مواجهة مخاطر الدمار الناتج عن اغتيال الأمل وتدمير الديمقراطيات الناشئة في بلداننا؛ على التعامل الندي مع حكومات ديمقراطية تنافح عن مصالح شعوبنا وتحارب الفساد وتقطع مع التبعية.
ففي ظل العلاقات "القديمة" المتجددة، يضمن الغرب أسعارا زهيدة، بل ورمزية أحيانا، لمواردنا وموادنا الأولية، وسوقا لخردته العسكرية، ومستهلكين لثقافته و"إبداعه"، وأقنانا يهربون من بلدانهم طلبا للعيش في أسواق النخاسة لديه.
وحينما زار الرئيس السابق لفرنسا القاهرة؛ كان سعيدا ببيع طائراته البائرة لنظام يقتل شعبه ومن يساند شعبه، فرنسيا كان أو إيطاليا...
وعن التعامل مع مخاطر الهجرة السرية، من الملفت أن مصادر الأمم المتحدة قدرت عدد الذين قضوا غرقا في المتوسط بنحو خمسة آلاف مهاجر سنة 2016 و1316 غريقا للأشهر الأولى فقط من سنة 2017، بينما تصل تقديرات منظمات المجتمع المدني إلى أكثر من ضعف هذا العدد، متحدثة عن حوالي 12000 ضحية.
وقد تمكن الغرب من إيقاف المهاجرين السوريين الهاربين من جحيم الممانعة عند حدود تركيا، وتعدادهم يفوق الثلاثة ملايين، بينما يواصل التفاوض من جهة أخرى مع دول جنوب المتوسط لإيقاف مد الهجرة المتنامي عند حدودها، وذلك مقابل ثمن بخس لا تكاد تجني منه الشعوب شيئا يذكر.
وقد عمد رئيس فرنسا الجديد ماكرون إلى جمع فرقاء الحرب الليبية قسرا للتوصل لحل يضمن وقف تدفق المهاجرين.
أما "الإرهاب"، فاختراقه، بل واختلاقه، أمر برعت فيه أجهزة المخابرات التي تبدت بصماتها في غير ما "عملية" هنا أو هناك، كما أنه شماعة جيدة لتبرير الانتهاكات داخليا وخارجيا، وهو سبب "وجيه" للتدخل المباشر إذا ما عجز الوكلاء المحليون عن التعامل المرضي معه.
وفي المحصلة يبدو الموقف الغربي محافظا على ما يعتقد أنه "مصالحه العليا" المتمثلة في استدامة علاقات الارتهان والتبعية ودعم الدكتاتوريات الدموية مهما كان الثمن، طالما كان العبء الأكبر سيقع على عاتق شعوبنا وكانت المخاطر التي تتهدده قابلة "للتعامل معها".