يُقام المؤتمر العالمي للرياضيات مرة كل 4 سنوات، وتُمنح خلاله أرقى الجوائز، منها ميدالية فيلدز. ويُعقد المؤتمر منذ نهاية القرن التاسع عشر، وبالتحديد منذ سنة 1897. وقد نال المؤتمر شهرة عالمية لا تضاهى عند أهل الاختصاص، وصار يتجمّع في كل دورة آلاف المشاركين من كامل أرجاء المعمورة. وببساطة فصِيت المؤتمر عند "الرياضياتيين" كشهرة كأس العالم في كرة القدم عند الشباب! ومن المعلوم أن المؤتمر القادم سيعقد من 1 إلى 9 أوت 2018 في البرازيل، أما الموالي فسينظم في صيف 2022.
قرّرت فرنسا في شهر ماي 2014 الترشح لاحتضان مؤتمر 2022 في باريس، وانطلق منذ ذلك التاريخ الإعداد لهذا الترشح. وفي أوت 2014 تقدمت فرنسا بترشح تمهيدي للجنة الدولية التابعة للاتحاد العالمي للرياضيات المشرف الرئيسي على دورات هذا المؤتمر وصاحب القرار.
وقد انتهى تاريخ الترشح في نوفمبر 2016، وتبيّن أن هناك مترشحيْن اثنين فقط، هما فرنسا وروسيا: فرنسا رشحت عاصمتها، أما روسيا فرشحت عاصمتها القديمة سانت بطرسبرغ التي كانت تدعى بتروغراد ثم لينينغراد بعد أن استرجعت اسمها الأول عام 1991 إثر تفكك الاتحاد السوفييتي. وكانت جمعية الرياضيات الأوروبية قد زكت الترشحيْن الروسي والفرنسي معا.
قدمت فرنسا ملفا دسما باللغة الإنجليزية مدعما بالوثائق والصور يتكوّن من 76 صفحة. ومن بين ما نجد في هذا الملف رسالة دعم حررت بتاريخ 13 جانفي 2016 صادرة عن رئاسة الجمهورية الفرنسية، وَقّعها الرئيس فرانسوا هولاند آنذاك جاءت في صفحة ونصف. يؤكد الرئيس فيها دعم رئاسة الجمهورية القوي لهذه المبادرة موضحا للاتحاد العالمي للرياضيات مكانة فرنسا في هذا المجال ووقوفها الدائم إلى جانب التعاون العلمي، خاصة عندما يتعلق الأمر بالدول الفرانكفونية.
تجدر الإشارة إلى أن هذه الرسالة أُدمجت مع ملف الترشح وجاءت باللغتين الفرنسية والإنجليزية. وهذا يؤكد حرص الرئاسة الفرنسية على احترام لغة قومها وهو ما يتجاهله عموما المسؤولون عندنا. كما توجد رسائل دعم من جهات فرنسية أخرى مثل وزارة التربية والتعليم العالي ورئيس بلدية باريس، إلخ.
والواقع أن فرنسا معروفة بتفوّقها في حقل الرياضيات بصفة خاصة؛ حيث يتفق المتتبعون على أنها صارت تحتل المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في مجال البحث في الرياضيات، وذلك بعد تفكك الاتحاد السوفييتي الذي كان يزاحمها في هذا التصنيف.
والجدير بالذكر فمنذ فترة عقد الباحثون الفرنسيون في مجال الرياضيات العزم على أن يجعلوا عاصمتهم باريس -بعد حوالي عقد من الزمن- العاصمة العالمية للرياضيات. ولا شك أن تنظيم مثل هذا المؤتمر سيدعم هذا التوجه. والْتَفّ حول هذا المشروع عدد كبير من الجامعات والكليات العليا الباريسية إضافة إلى هيئات البحث القومية الشهيرة في العاصمة. وهذا يعني أنه إذا تحقق هذا المشروع فستكون باريس المدينة التي ستزدهر فيها الرياضيات أكثر من أية مدينة أخرى في العالم.
فرنسا تمتعض من تفضيل روسيا
سيتم الاختيار النهائي لأحد المترشحيْن الاثنين في جويلية القادم بمناسبة انعقاد مؤتمر 2018 الذي ستحتضنه مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية، وهي المدينة التي نظمت قبل أيام المنافسات الأولمبية العالمية! إن اختيار إحدى المدينتين باريس أو سانت بطرسبرغ ليس بسيطا. فلكل منهما تاريخ مجيد في مجال الرياضيات ولهما مؤهلات لا يستهان بها: العراقة في مجال البحث العلمي، ووسائل النقل الحضري، والفنادق المختلفة الدرجات، وقصر للمؤتمرات، وإمكانيات التمويل التي تقدر بملايين الدولارات، ووجود علماء رياضيات وباحثين بارزين في الهيئات الأكاديمية بالمدينة.
وقد زارت المدينتين في مارس الماضي لجنة خاصة عيّنها الاتحاد العالمي للرياضيات، وتعرفت على خصوصياتهما المرتبطة بعقد المؤتمر. وجاء في تقريرها النهائي التي ستضعه أمام الجمعية العامة للاتحاد العالمي للرياضيات ميول إلى دعم المرشح الروسي بدل الفرنسي.
ومما أدى مثلا إلى هذا التفضيل أن روسيا التي كانت في المرتبة الثانية في مجال الرياضيات قبل تمزق الاتحاد السوفيتي قد تقهقرت وغادرها عدد كبير من كبار علمائها منذ التسعينيات، ولذا فهي تحتاج إلى دعم لتسترجع روسيا مكانتها في مجال الرياضيات. ولا شك أن إقامة مؤتمر كهذا في سانت بطرسبرغ سيخدم هذا الجانب. لكن دعم روسيا في هذا الاتجاه سيكون على حساب فرنسا التي تطمح أن تكون عاصمتها العاصمة العالمية للرياضيات. كما قد يُفقدها المرتبة الثانية في مجال البحث الرياضي، ناهيك عن السمعة العلمية التي يكتسبها البلد المنظم لمثل هذه التظاهرات في الوسط الأكاديمي!
"ما يهمنا في هذا السرد هو حرص هذا وذاك على احتضان التظاهرات العلمية لما فيها من انعكاسات تربوية وعلمية إيجابية على البلد المنظم. ويهمّنا أن نتساءل كم تظاهرة علمية من هذا القبيل -حتى على المستوى القاري أو الإقليمي- احتضنت الجزائر؟ ذكّرونا إن نسينا أو أخطأنا! وإن كان المسؤولون بحاجة إلى اقتراح نقول إنه من المرتقب أن تطلق الألكسو (المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم) "الأولمبياد العربي في الرياضيات". فلِمَ لا تحتضن الجزائر أول دورة لها؟ ألا تهوى الجزائر أن تكون رائدة؟"
ولهذه الأسباب فالفرنسيون لم يرقهم رأي اللجنة الدولية وراحوا يسعون مجددا وبكل قوة إلى دعم ترشحهم رغم أن التقليد المعمول به خلال العقود الأخيرة في إعداد المؤتمر العالمي للرياضيات أن المترشح الذي لا تصنفه هذه اللجنة في المرتبة الأولى ينسحب من السباق قبل جلسة الجمعية العامة. وهكذا قرر الفرنسيون عدم العمل بهذا التقليد ومواصلة دعم ترشحهم إلى آخر لحظة!
واجتمع الفريق الفرنسي (مقدم مشروع الترشح) في جويلية 2017 ليعبّر عن نيته في مواصلة متابعة ودعم ملف الترشح الفرنسي، موضحا أنه لا يطعن أبدا في عمل اللجنة ومختلف الهيئات العالمية حتى لا يُنظر لفرنسا نظرة سيئة بسبب عدم احترامها للتقاليد (القاضية بالانسحاب قبل انعقاد الجمعية العامة). وفي هذا السياق أشار الفريق إلى عشر نقاط بلغة دبلوماسية تعزز مؤهلات وتفوّق باريس على سانت بطرسبرغ دون ذكر المدينة الروسية. وركزت تلك النقاط على جانب الاستقبال والموقع الجغرافي والجانب الإنساني والقرب من القارة الإفريقية وسخاء المنح للمعوزين الراغبين في الحضور. لكن المطلع على هذه النقاط لا يلمس وجود حجج حاسمة تجعل أعضاء اللجنة الدولية يغيّرون رأيهم، ذلك أن كل ما ذكر كان ظاهرا للعيان من قديم الزمان ويعلمه القاصي والداني.
والجدير بالذكر أن اللجنة الدولية قد ذكرت من بين الأسباب التي جعلتها تفضل روسيا على فرنسا أنه لو تحتضن باريس عام 2022 المؤتمر لكانت فرنسا أول دولة تنظم 4 دورات لهذا المؤتمر منذ 1887. لكن هذا المبرر يُشتم منه سعيا لكسب رضا الفرنسيين كي يتقبلوا تفضيل سانت بطرسبرغ على باريس.