منن ومكرمات الملوك
في الممالك التي تتحكم بها الفئات المخملية ويقودها في العادة شخص بمسمى ملك، تنص دساتيرها على أن الملك يملك ويحكم "باستثناء الملكيات الدستورية كبريطانيا". هذا بحد ذاته يعد من مفارقات العصر الذي، حسب الدعاية، يعد عصر الحريّات ونيل الحقوق لكل فئات المجتمع.
فمثلا، تتقدم دولة بحجم أمريكا عالميا وفق مبدأ
الحريات التي نالها الشعب بكفاحه عبر عقود طويلة، ومن خلال منظمات حقوق الإنسان ومؤسسات المجتمع المدني، وتجد في دساتيرها نصوصا لحماية حقوق المواطن بغض النظر عن لونه أو جنسه، ونجد هناك من يتهم أمريكا من بين فئات المجتمع الأمريكي، وخصوصا الليبراليين، بتخلفها وعدم تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة، وفي ذات الوقت نرى دولا ملكية الحكم والنظام تغوص في ظلمات الجهل والظلم والقهر الممنهج، ثم يخرج علينا يوميا العديد من كتّاب تلك الأنظمة وشيوخها وأئمتها ليحدثونا عن المكارم التي نالتها شعوب تلك الدول من خلال عفو أو مكرمة ملكية، كما يدعي هؤلاء بأنهم يتربعون على قمة هرم الحريات والحقوق، في حين تغص سجونهم بمن يطالبون بأبسط الحقوق المدنية من الأيديلوجيين وأصحاب الفكر السياسي وجماعات التغيير الإجتماعي (Social Movements).
في بلد ملكي الحكم، سمحوا للمرأة بقيادة السيارة وهي حق فطري بدهي لا يختلف عليه اثنان من ذوي الكرامة، بينما زجوا في السجون كبار علمائها ومفكريها دون تقديم لوائح اتهام وبدون جرم قانوني، اللهم إلا أنهم حسبوا ممن يستخدمون عقولهم ويعملونها تفكيرا فيما يدور حولهم.
رضي الله عن عمر بن الخطاب الذي أمر القبطي المسيحي أن يجلد ابن عمرو بن العاص حبر السياسة وقائد الفتح المبين في مصر الكنانة، ثم يقول كلمته التي ربما ينبغي أن تصبح أغنية العصر، حيث قال سائلا ابن الأمير: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"؟ سؤال دشن قواعد الحرية كلها وأعاد للبشرية كرامتها وكبرياءها قبل اربعة عشر قرنا، ليس مكرمة من عمر، بل ممن خلق عمر حينما عرّف حرية المرء بمولده، بينما حكام دول التزحلق على الرمال وأصحاب السمو الذين سمت فيهم غرائزهم وتأججت كالبراكين، واندثرت قيمهم لا زالوا يرون في القرن الواحد والعشرين أن ما يقدمونه للشعوب المبتلاة بهم مكرمات وهبات، وهي في ذاتها أبسط حقوقهم التي جاد بها الله عليهم.
كنت أتحدث لطلابي في مادة نظام الحكم في أمريكا عن نظرية "لوك Locke" التي ينظّر فيها حول الحقوق الطبيعية للمواطنين، ويرى أن تلك الحقوق تعد خطا أحمر وأنها ولدت معهم بمولدهم، ولا ينبغي للحكومات أن تحد منها، بل عليها حمايتها، هذه النظرية ظهرت في القرن السابع عشر، بينما أولو الأمر في دول وممالك سايكس بيكو في هذا القرن ما زالوا يتحدثون عن مكارم من استولوا على السلطة في السماح ببعض الحقوق للمواطنين، ونرى المواطنين يغنون فرحا بهذا وكأن دنياهم قد طوّعت لهم.
عيادة الطبيب مكرمة ملك، وقيادة السيارة للمرأة أيضا منحة وهدية جاد بها ملك، وعند ولادة كل أمير وطهوره يمنح السجناء فرصة الحرية بإرادة ومكرمة ملك، وحينما يولد لفرد من أفراد الشعب مولود يعزو كل شيء خيّر للملك، هذه هي عبودية القرن الحادي والعشرين في دولنا المجزأة المهترئة، لا تماثلها حتى عبودية من كانوا تحت سياط أبي جهل وأمية وأبي لهب.
خطابات الزعماء تدخل في مسماها السياسي كواحدة من ركائز رسم السياسات في البلاد، بينما خطابات الملوك وزعماء بلادنا ربما تجد مكانتها في كتب وحكايات ألف ليلة وليلة التي لا ندري مدى دقة ما جاء فيها ومدى صلاحيته لعصورنا التي وصل فيها زعيم كوريا "كيم جونج أون" إلى تفجير أكبر قنبلة هيدروجينية، متحديا القطب العالمي الأول وحلفائه. إنه واقع يبعث على الحزن والتشاؤم، واقع جعل كل فئات الشعب تحت الطين، ومع ذلك نحن الشعوب الأكثر احتفالا في العالم بالهبات والمكرمات والاستقلال والحرية.
أنا العربي المسلم بت أشك في أصولي الآدمية، فلو كنا لآدم لما كان هذا الفرق الشاسع بيننا وبين شعوب توافقت على حرياتها واعتبرتها حقا طبيعيا، في حين نرى كل شيء في حياتنا صدقات من يد كريمة منّ بها القدر علينا. رفعنا لهذه الرؤوس التاج المرصع بكل نفائس المجوهرات بينما لا نجد ما نأكله، حتى صارت أنفاسنا تبعا لمكرمات اصحاب هذه التيجان، ثم خرّت كل هذه الرؤوس بكل ما حملته من ذهب وفضة ولؤلؤ ساجدة أمام ترامب. زعماء خمسين دولة أو يزيد من دول التوحيد والعروبة يخضعون لقرارات ترامب ويصنعون له إسلاما كما يريد، يقودهم محمد بن زايد ويقرأ عليهم المعوذات ويرقيهم شيخهم السديس. هذا وأسوأ من الملكيات والممالك أن بلادنا فيها رؤساء تنتخبهم أجهزة المخابرات ويتوجون مدى العمر، منهم المقعد ومن هو مصاب بالزهايمر ومنهم من جاء على دبابة صهيوعربية وانتزع الحكم واضعا إرادة شعبه تحت "بيادته". أما نحن؛ فبئست الأمة، أمة تغني "منتصب القامة أمشي" وعند أول اختبار للكبرياء تنحتى حتى السجود.