تحل هذه السنة ذكرى الوحدة الألمانية في نسختها السابعة والعشرين، وهي عطلة رسمية في الثالث من شهر تشرين الأول/ أكتوبر كل سنة، في ظروف استثنائية، ليس فقط في ظل غياب مهندسها المستشار الألماني هيلموت كول الذي توفي شهر حزيران/ يونيو الماضي، بل بالأساس بعد زلزال سياسي مدو تمثل في رجوع
اليمين المتطرف بعد سبعين سنة إلى البرلمان الاتحادي، حيث حصد حزب "البديل" اليميني الشعبوي 13 في المئة من أصوات الناخبين في
الانتخابات الاتحادية التي أجرت نهاية شهر أيلول/ سبتمبر الماضي.
وصحيح أن هذه النتائج "مقلقة للغاية"، حسب تعبير يوشكا فيشر، وزير الخارجية الألماني الأسبق، إلا أنها كانت متوقعة، عكس ما ذهب إليه. أيضا لم تكن هذه النتائج عقابا جماعيا لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي تنتمي إليه المستشارة الألمانية أنجيلا
ميركل، ولا لغريمه الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وهما الحزبان الرئيسان في ألمانيا، بقدر ما عكست قدرة حزب البديل الألماني العنصري على استمالة شرائح عريضة من المجتمع الألماني باللعب على وتر الحفاظ على الهوية القومية من الانحلال، وضمان استمرارية العرق الألماني ونقائه، حيث كان المُعبر الشرعي الوحيد في هذه الانتخابات عن توجسات هذه الشريحة من الآخر، وخصوصا بعد استقبال ألمانيا لعدد كبير من اللاجئين من منطقة الشرق الأوسط، وبخاصة من سوريا، ابتداء من سنة 2015، وهي تخوفات نفّست عنها شعارات سطحية لهذا الحزب المتطرف الذي قدم نفسه بكونه بديلا من أجل ألمانيا.
لكن ما عدا اللعب على وتر التخويف المَرضي من كل ما هو أجنبي، لا يقدم الحزب أي أجندة سياسية متكاملة تحتوي على بدائل اقتصادية واجتماعية بدلا من السياسة الحالية المتبعة. فعندما فتحت ميركل أبواب ألمانيا أمام أفواج كبيرة من اللاجئين العرب، معظمهم من الشباب والأطفال، لم يكن هذا الحدث لحظة ضعف إنسانية أو خطأ تاريخيا في التقدير السياسي؛ يُعاقب عليه عند أول انتخابات سياسية بمنح الأصوات للمعارضة، حتى ولو كانت يمينية متطرفة، بل كانت فرصة تاريخية اقتنصتها ميركل بكل واقعية وبرغماتية وجرأة نادرة؛ فقط من أجل مستقبل أفضل لبلدها، ولو على حساب مآسي شعوب أخرى. فهذا البلد الغارق في شيخوخته يحتاج ببساطة إلى دماء شابة جديدة لتسري في شرايين اقتصاده، حيث يبلغ تعداد سكانه حالياً 82 مليون نسمة، ويُتوقع أن ينخفض هذا العدد إلى 65 مليون بعد أربعين سنة تقريبا. يضاف إلى هذا أن معدل الخصوبة الكلي فيه هو من أدنى المعدلات في العالم بأسره. وبناء على كل هذا، فالحضور الأجنبي الحالي، أو حتى المستقبلي في ألمانيا، هو كما يراه الخبراء، ضرورة اقتصادية واجتماعية قصوى من أجل الحفاظ على معدل نمو اقتصادي مرتفع، وتغطية نفقات الخدمات الاجتماعية للدولة، وبخاصة في قطاعات الصحة والرعاية الاجتماعية والتعليم، فقط عن طريق إعداد شباب مهني منتج يتم عبره زيادة الناتج المحلي في البلد، وبالتالي زيادة المداخيل الضريبية ليتسنى تلبية كلفة النفقات الاجتماعية الباهظة لهذه الدولة الصناعية؛ من أجل الحفاظ على مستواها المتقدم في جودة الحياة.
لكن رغم هذه "الجدوى" الاقتصادية و"المنفعة" الديمغرافية لهذه الأجيال الحالية من
المهاجرين واللاجئين الشباب، لا يزال ينظر إليهم، وبخاصة المسلمين منهم، بنظرة توجس وتخوف جمعي غير مبرر، إن لم أقل بكثير من الاستعلاء الحضاري لفئات عريضة من الألمان "البيض". ويذكرنا كل هذا بالإهمال، بل وبالتبخيس الذي يتعرض له حاليا الجيل الأول من المهاجرين الذين ساهموا بسواعدهم ودمائهم في إعادة بناء ألمانيا بعد خرابها في الحرب العالمية الثانية، بل وتحقيق المعجزة الاقتصادية الألمانية، حيث لم يستنكفوا عن مزاولة مهن شاقة ومتدنية اجتماعيا كان الألمان "البيض" يفضلون البطالة على مزاولتها. ورغم كل هذا؛ لم تسع دولة الرخاء، ولو كخطوة رمزية، حتى إلى تأسيس متحف على مستوى الاتحاد يليق بالتضحيات الجسام لهؤلاء المهاجرين. وغياب مثل هذه المبادرات الرمزية هو نوع من نكران الجميل على المستوى المؤسساتي.
يوم ذكرى الوحدة الألمانية، وهو أيضا يوم الأبواب المفتوحة للمساجد في ألمانيا، والتي أُسست معظمها في نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات من القرن الماضي على يد الجيل الأول من المهاجرين المسلمين؛ كمبادرات عفوية لإقامة شعائرهم الدينية والمداومة عليها، لكنها صارت الحلقة الأضعف في العلاقة بين الألمان "البيض" والمهاجرين "المسلمين"، حيث يجتهد مشرفو المساجد أثناء استقبالهم للزوار والضيوف في هذا اليوم؛ ليس في التعريف بالدور الروحي والاجتماعي الذي تمارسه المؤسسة المسجدية وتقديم مشاريعها المفترضة في هذا الصدد، بل تسعى معظم إدارات المساجد بكيفية روتينية إلى درء شبهة التشدد والتطرف، بل والإرهاب، عنها، والتي يأتي بها ضيوفهم كل سنة، حيث تعكس تمثلاتهم النمطية عن الإسلام والمهاجرين حلقة مفرغة لا نهاية لها ولا هدف لها سوى تكريس دونية متخيلة لهذا الآخر، فقط لمجرد "غيريته" الظاهرية بدلا من اعتباره مواطنا ألمانيا كامل المواطنة له حقوق وعليه واجبات، حتى ولو كان لون بشرته ودينه ولغته الأصلية مختلفة.