تستعد الجالية التونسية بألمانيا خلال الأيام القليلة القادمة إلى خوض انتخابات تشريعية جزئية؛ لتعويض السيد حاتم الفرجاني الذي وقع تعيينه كاتب دولة لدى وزير الخارجية مكلفا بالديبلوماسية الاقتصادية. وقد كان من المستبعد أن تثير هذه الانتخابات أي سجال عمومي في تونس، لولا ترشّح السيد حافظ قائد السبسي المدير التنفيذي لنداء تونس، والابن البيولوجي "المدلّل" للرئيس، ذلك الدلال الذي يجعلنا نعيد طرح الإشكال الفرويدي عن "القتل" الرمزي للأب، بإشكال آخر ألصق بثقافتنا العربية-الإسلامية منذ انقلاب الخلافة إلى ملك عضوض: ضرورة "القتل" الرمزي للابن.
إنّ ترشح الرجل القوي في نداء تونس وفي الدولة "العميقة" التي تتحكم في توزيع الخيرات المادية والرمزية بصورة كبيرة، قد جعل الكثير من التونسيين يستحضرون أشد السيناريوهات سوداوية وإن لم يكن أقلها احتمالا: سيناريو التوريث. وقد أشار كاتب هذه السطور في مقال سابق إلى أنّ التوريث هو خيار استراتيجي يتعلق بمنظومة الحكم كلها، ويتجاوز الطموحات الشخصية للمسؤولين مهما كان وزنهم أو موقعهم.
ولكنّ تلك الملاحظة لا تعني غياب تقاطعات ممكنة بين الحسابات الشخصية للرئيس وابنه، وبين حسابات المنظومة ومراكز القوى المؤثرة في خياراتها الكبرى بما فيها حسابات حركة النهضة ذاتها، باعتبارها جزءا من منظومة الحكم، بل باعتبار الشراكة في الحكم وعدم التصادم مع الدولة من بين الموجّهات الأساسية لسياسة "التوافق" في مرحلة "الإسلام الوظيفي"، التي أعقبت مرحلة "الإسلام الاحتجاجي".
تبعا لهذا المدخل التفسيري، قد يكون لإحجام حركة النهضة عن تقديم مرشحها الخاص في هذه الانتخابات التشريعية الجزئية، دلالات رمزية ورهانات تتجاوز هذا الحدث. فعدم "إحراج" ابن حليفها و"كافلها" لدى العائلة الديمقراطية هو رسالة طمأنة للأب والابن على حد سواء. وهي رسالة للمتحزب النهضوي ذاته باعتبار "التوافق" خيارا استراتيجيا، يتجاوز المدى المنظور أو المتوسط ويراهن على جناح حافظ قبل غيره-أو ضد غيره من الخيارات الممكنة داخل "العائلة الدستورية" وخارجها.
من الناحية التمثيلية المحض، لا يمكن لأي فائز يترشح ضد ابن الرئيس في هذه الانتخابات أن يُغير شيئا من توازنات القوة داخل المجلس -هذا إذا ما سلّمنا جدلا أو اعتباطا بأنّ للمجلس قوة ذاتية حقيقية وأنه ليس مجرد واجهة قانونية لقوى"خفية"، هي التي تحدد سقف تحرّكه على الرغم من أنه "صوريا" سيد نفسه، وصاحب السلطة الأهم في البلاد-.
أمّا من الناحية الرمزية، فإن ما بين فشل مرشّح المنظومة ونجاحه توجد مسافة للحلم بتحييد جزء من مفاعيل الثورة المضادة أو حتى من غاياتها النهائية، أو توجد مسافة للموت كمدا إذا ما تمكنت المنظومة باستغلال ضعف معارضيها وتشتتهم لفرض سلطتها في ألمانيا كما فرضتها في تونس.مهما كان الفائز الذي سينتصر على مرشح المنظومة –أي على ابن الرئيس الذي هو مرشح حكومة الوحدة الوطنية كلها رغم مبادرة حزب آفاق تونس إلى تقديم مرشحه الخاص لإعطاء المسرحية شيئا من الجدية-، فإنه سيكون قد وجّه ضربة كبيرة في المستوى الرمزي لمسار كامل من الثورة المضادة، ولإرهاصات لا تكاد تخفى على أحد من نوايا التوريث داخل العائلة "البلدية"، باعتبارها المنافس الأبرز للجناح الثاني من النواة الصلبة للمنطومة، أي العائلة"الساحلية".
فالقول بأن مسألة التوريث هي مسألة "نظامية" تتجاوز الأشخاص مهما كان نفوذهم داخل أجهزة الدولة أو الأحزاب، لا يعني أنها مسألة "وطنية" تتجاوز استراتيجيات أو رهانات الجهات "المحظوظة، بل يعني فقط أنها مسألة تتجاوز المستوى العائلي ولكنها من المستبعد جدا-إن لم يكن من المحال في ظل الشروط الحالية للحكم- أن تخرج من التنافس التاريخي بين "أصحاب الدماء الزرقاء"؛ أي التنافس بين الإقطاعيتين البلدية والساحلية- مع الانتباه دائما إلى أن المتضرر الأكبر من هاتين التشكيلتين المتحكمتين في دواليب السلطة منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا، هو ساكنة السواحل ومناطق الظل/الذل المحيطة بالعاصمة قبل المناطق الداخلية-.
ولا شك في أنّ اليسار الوظيفي والإسلام الوظيفي-رغم منحدرات قياداتهما الجهوية في دواخل البلاد وقواحلها- سيكونان وقودا لهذه المعارك بين جناحي المنظومة الحاكمة، ومن غير المرجّح أن ينجحا في جعل معركة "التوريث" معركة وطنية، ماداما لا يتحرّكان –بمنطق المضاددة الذي أقرب إلى المنعكس الشرطي البافلوفي- إلا في المربع الإيديولوجي-الهووي الذي يجعل منهما معا مجرد ملحقات وظيفية أو طوابير خامسة للنواة الصلبة للحكم، أي للمركّب الجهوي-المالي-الأمني الحاكم الحقيقي لتونس قبل الثورة وبعدها.
بصرف النظر عن السيناريو التوريثي البيّن الذي يفترض أن ترشح ابن الرئيس للمجلس النيابي هو خطوة أولى لتولي رئاسة المجلس، ثم لتولي الحكم"وقتيا" في صورة حدوث شغور في منصب رئيس الدولة، بصرف النظر عن هذا السيناريو الذي لا يمكننا وصفه بالسريالي-فهو ليس في مستوى سريالية الوعي "الحداثي" الذي اعتبر الرئيس التسعيني "خيارا للمستقبل"، وليس في مستوى سريالية انتظار "الإنقاذ" ممّن خرّب البلاد ونهبها-، فإنّ وصول المدير التنفيذي لنداء تونس وابن الرئيس إلى قصر باردو يبعث بأكثر من رسالة لأكثر من جهة، ولعل أهم تلك الرسائل هي التالية: إعطاء حافظ قائد السبسي قيمة "إجماعية" حزبية بل وتوافقية -بحكم غياب مرشح نهضوي ضده-، وهو ما يدعم زعامته للحزب في المؤتمر الذي يزمع إجراؤه، بعد أن تخلّص ابن الرئيس من كل منافسيه الجديين على قيادة نداء تونس.
لعلّ ما يميّز الانتخابات التشريعية الجزئية في ألمانيا أيضا، هو نجاح النخب السياسية المعارضة في تونس في "تصدير" مشاكلها وخلافاتها إلى الخارج. فرغم كل دعوات التوحد-أو ادعاءاته- لم تنج النخب الحزبية والمستقلة في الدفع بمرشح جدّي لمواجهة المدير التنفيذي لنداء تونس. وهو ما سينعكس بالضرورة على حظوظ مرشحيهم جميعا. إن تشتت الأصوات –مع رجحان أن ينتخب النهضويون مرشح النداء أو على الأقل يمتنعون عن تأييد أي منافس معارض له-، سيجعل الطريق شبه مفتوح أمام وصول ابن الرئيس إلى مجلس النواب. وهو بنجاحه سيؤكد قوّة مراكز القوى التي تدعمه داخل الحزب وأجهزة الدولة، مما سيجعل من باقي طموحاته-التي قد تبدو الآن سريالية- أمرا ممكن التحقق. فلا شيء في صف المعارضة يوحي –رغم كثرة الترشحات، بل سبب كثرة الترشحات ذاتها- بوعي النخب بالأهمية الرمزية لنتائج هذه الانتخابات في تحديد المسارات الممكنة للانتقال الديمقراطي وللثورة المضادة على حد سواء.
ختاما، رغم أهمية الصراع ضد حافظ قائد السبسي باعتباره مشروع توريث ورمزا لمنظومة سلطوية فاسدة، فإن علينا ألا نجعل من هذا الصراع مركزا للنضال السياسي والمدني، كما علينا ألا نبالغ في تقدير ما قد ينتج عن إمكانية الانتصار في هذه المعركة"الجزئية"؛ فحافظ قائد السبسي هو أحد البدائل الممكنة التي قد تفرضها المنظومة الحاكمة على التونسيين بالمنطق الديمقراطي"الصوري"-كما فرضت المخلوع من قبله بالمنطق الانقلابي-. ولكنّ حافظا يظل أحد البدائل التي علينا الحرص على ألاّ يتحول الصراع ضدها إلى خدمة مجانية لبديل آخر من البدائل التي تعدّها المنظومة. وهو ما يعني أنّ الصراع ضد البنية الجهوية الزبونية التابعة هو صراع ضد كل أجنحتها، لا من موقع جهوي مضاد يريد إعادة إنتاج المنطق الجهوي من موقع ثوري كاذب، بل من موقع مواطني اجتماعي يحاول الارتفاع بالصراع إلى مستوى الوطن، وهو ما لا يكون إلا بالانعتاق من فتنة الإيديولوجيا وعصبية الجهة، فكلاهما مدخل مؤكد للتخلف والتبعية عندما يتحولان إلى ركيزة للسلطة أو أداة لشرعنتها.