واجه النظام السلطوي العسكري المصري الثرثرة حول هجوم الواحات بالصمت، وهي استراتيجية تحيل إلى أزمة النظم الدكتاتورية عموما عندما تتآكل مصادر"الشرعية" التقليدية فتلجأ إلى بنائها من مدخل حرب "
الإرهاب".
وبهذا يتحول التهديد إلى فرصة حيث تنحصر خيارات المواطنين وفق المنطق ثنائي القيمة، بحسب مبدأ الثالث المرفوع بين الدكتاتورية والفوضى، وتصبح الديمقراطية خيارا مستبعدا مع إقصاء منظورات منطق تعدد القيم، في ظل تواطؤ معظم أعضاء المجتمع الدولي الحريصين على تعميم وإشاعة مفهوم استقرار النظام الديكتاتوري، في مغالطة مكشوفة برهنت مسارات الثورات والانتفاضات على زيفها وكذبها.
فالديكتاتورية ليست نقيض الفوضى، بل سببها الكافي ومحركها الأكبر، وبهذا فإن الدكتاتورية لا تجلب الاستقرار.
تجلت حكمة الدكتاتورية بالصمت بصورة واضحة مساء الجمعة 20 تشرين الأول/ أكتوبر 2017، عندما شن مسلحون هجوما على جنود وضباط مصريين في منطقة الواحات غرب البلاد، ما خلف عشرات القتلى والجرحى، دون أن تعلن أي جماعة أو تنظيم مسلح حتى الآن المسؤولية.
والأمر أثار عاصفة من رعونة الثرثرة حول "الإرهاب"، وأفسح مجال التكهنات حول مرتكب المجزرة وسؤال الدكتاتورية أم الفوضى.
المصادر المستقلة الأكثر موثوقية، قالت إن العملية راح ضحيتها 55 شرطيا بينهم 18 ضابطا أغلبهم من عناصر الأمن الوطني المصري والباقي مجندون، ونقلت وكالة رويترز عن مصادر قولها إن الاشتباكات وقعت عندما انطلقت قوة أمنية في عملية لدهم موقع وصلتها إخبارية تؤكد أنه يؤوي ثمانية أفراد من حركة سواعد مصر (
حسم).
وأضافت أن المسلحين استخدموا قذائف صاروخية من طراز "آر بي جي" وعبوات ناسفة، ما أوقع خسائر بشرية كبيرة في القوة التي وصفتها الوكالة "بالكبيرة"، ولم تصدر الرئاسة المصرية أي بيان يوضح الملابسات الكاملة للحادث، واكتفى رئيس الوزراء شريف إسماعيل بمتابعة التفاصيل عبر اتصال هاتفي أجراه بوزير الداخلية اللواء مجدي عبد الغفار، وسط اتهامات للسلطة بالتقصير.
في اليوم التالي السبت 21 تشرين الأول/ أكتوبر 2017 خرجت الحكومة عن صمتها الحكيم ببيان مقتضب يهدف إلى زيادة الثرثرة في ظل ارتفاع وتيرة التعاطف والتضامن الدولي وبيانات الإدانة والاستنكار، حيث أعلنت وزارة الداخلية المصرية عن مقتل 16 من قوات الأمن بينهم 11 ضابطا، وإصابة 13 آخرين، في المواجهات التي وقعت مع مجموعة إرهابية بمنطقة الواحات البحرية في محافظة الجيزة (135 كيلومترا جنوب غربي القاهرة).
وأفادت الوزارة، في بيان لها، بمقتل وإصابة 15 إرهابيا في عمليات تمشيط للمناطق المجاورة لموقع الحادث مشيرة إلى أن عمليات الملاحقة والتمشيط مستمرة.
لم يحدد بيان الداخلية الجهة المسؤولة عن الهجوم واكتفى بتحميلها إلى "الإرهاب"، رغم القول إن القوة الأمنية كانت في مهمة منسقة للقضاء على "إرهابيين" مفسحة المجال للثرثرة حول ماهية الإرهاب والجماعات الإرهابية، حيث تبرع المخبرين باعتبارهم خبراء "الإرهاب" بذكر كافة الجماعات والحركات التي تعمل في الساحة المصرية، وقدموا للجمهور سيناريوهات بوليسية متخيلة دون أن يكلف أحدهم نفسه عناء التحقق، وكأن "الواحات" تقع في أحد الكواكب البعيدة التي يقتصر قاطنيها على إرهابيين فضائيين.
منذ الانقلاب العسكري في مصر 2013، ظهرت تنظيمات وجماعات ومجموعات جهادية عديدة انتهت إلى ثلاثة تنظيمات رئيسة وهي
تنظيم الدولة الإسلامية بفروعه في سيناء ومصر، وجماعة المرابطون وحركة سواعد مصر (حسم).
وأتحفنا المخبرين بذكرهم جميعا كمنفذين، وذهب بعضهم إلى توسيع مداركه الإرهابوية بصورة غرائبية تذكر بحرب "النجوم" جهات إحداها وراء هذه العملية.
المصادر الصحفية الغربية رجحت وقوف تنظيم الدولة الإسلامية خلف الهجوم، فصحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية قالت إن هذا الهجوم يقف وراءه تنظيم الدولة الإسلامية.
وكذلك صحيفة "ديلي ميل" البريطانية أشارت إلى أن تنظيم الدولة الإسلامية هو الذي قام بهذا الهجوم، أما وسائل الإعلام المقربة من السلطات المصرية فقالت إن حركة "حسم" من يقف خلف الهجوم.
وهي حركة تعتبرها السلطات المصرية الجناح المسلح لجماعة الإخوان المسلمين بعد 2013.
ورغم عدم توجيه تهمة رسمية بمسؤولية حركة حسم، نشر عدد من هؤلاء شائعة أن جماعة "حسم" المتطرفة أعلنت مسؤوليتها عن الاعتداء، ليتبيّن أن هذا التبني كاذب.
وأضاف هذا التيار إلى جانب حسم جماعة المرابطين التي أسسها ضابط صاعقة مصري سابق يُدعى هشام علي عشماوي القريب من تنظيم القاعدة، وكان . أحد القيادات الميدانية لتنظيم أنصار بيت المقدس الذي تحول اسمه إلى "ولاية سيناء".
يمكن للنظام المصري أن يقدم رواية واضحة ومتماسكة حول طبيعة الهجوم والجهة المنفذة، لكنه في الحقيقة تعمد الصمت وسرب روايات لخلق ثرثرة حول طبيعة الإرهاب وماهية الإرهابيين لجلب التضامن وتجديد شرعية الاستقرار بدل الفوضى وغض النظر عن جدل الدكتاتورية والديمقراطية.
فالأهداف الأساسية لشعار "مصر تحارب الإرهاب" تصل غاياتها النهائية بإعادة إنتاج الدولة العسكرية الأمنية تحت ذريعة حفظ النظام وتأمين الاستقرار وتجنب الفوض، والتركيز على أن منفذ هجوم الواحات هي حركة "حسم" تأكيد على الرواية الرسمية الرئيسية بإرهابية جماعة الإخوان المسلمين التي صنفها النظام كحركة إرهابية منذ 25 كانون الأول/ ديسمبر 2013.
في حقيقة الأمر ثمة فجوة من عدم الثقة تتنامى بسرعة كبيرة بين المجتمع والدولة في مصر ذلك أن بعض قطاعات المجتمع المصري التي وضعت ثقتها في قدرة الدولة على تحقيق الاستقرار بإدارة المرحلة الانتقالية وإنجاز التحولات الديمقراطية وترسيخ التعددية السياسية وتحقيق التنمية الاقتصادية فضلا عن قمع "التمرد" و"الإرهاب" المحتمل وتنازلت عن مساءلة السلطة العسكرية وتغاضت عن مفهوم الشرعية بدت غير قادرة على فهم التحديات الأمنية وتكاثر العمليات الإرهابوية.
في هذا السياق، فإن الثرثرة حول منفذ هجوم الواحات يهدف إلى تنشيط الذاكرة حول السردية الأساسية للسلطوية العسكرية التي ترتكز إلى إنقاذ الدولة من "إرهاب" جماعة الإخوان، التي هددت الاستقرار وجلبت الفوضى.
ذلك أن سردية تنظيم الدولة الإسلامية تهدد المنظورات المتداولة حول "الإرهاب" الأمر الذي يتطلب الإحالة إلى "حسم" و"المرابطون" باعتبارهما تمظهرات للأيديولوجية الإخوانية بصيغها الراديكالية الجهادية وتحولها من جدار وقاية ضد التطرف إلى حزام ناقل للعنف والإرهاب.
خلاصة القول إن صمت النظام المصري كان يهدف إلى توليد حالة من الثرثرة الداخلية المصرية أساسا، واستجلاب مزيد من التعاطف والتضامن الدولي الرسمي، حيث قام عبر جملة من التسريبات بترسيخ رواية مسؤولية جماعة الإخوان عن الهجوم بطرائق مباشرة أو غير مباشرة للتأكيد على سرديته التي أخذت بالتآكل حول مسؤولية الإخوان عن "الإرهاب"، وهو أمر أخذه على محمل الجد بعض المخبرين الصحفيين المحليين.
بينما أصر الخبراء الآخرين على مسؤولية تنظيم الدولة الإسلامية، وهو نزاع جوهري في تحديد مسألة الفوضى والاستقرار وموضوعة الدكتاتورية والديمقراطية.