على غير موعد، أو اتصال سابق، تلقيت مكالمة تلفونية من رقم فرنسي كان الطرف الثاني فيها شخصا مصريا رفيع القدر والشهرة، طلب مني أن نتحدث لبضع دقائق.
سألني: لماذا أنت خارج بلدك؟ ولماذا لا تعود وتمارس دورك من الداخل؟ وخاصة ومصر تتأهب لاستحقاق انتخابي بإمكانك أن تكون رقما صعبا فيه، بما لك من خبرة ورصيد بوصفك أول من خاض انتخابات رئاسية
مصرية ودفعت ثمنا باهظا يعلمه الجميع في الداخل والخارج؟
أجبت عن سؤاله قائلا:
كان بإمكاني أن أكون مثلك ضيفا عزيزا على كل موائد العشاء وكل برامج التوك شو، وكل صفحات الصحف مستمتعا بحصة في كل تورتة سياسية أو برلمانية أو وزارية. لكن للأسف - يا سيدي - لم يكن بإمكاني أن أقبل أن أتحول إلى بعض من ديكور بلاستيك، أو كتلة من الغل، ومصر تحترق بفعل الغدر والعنف والظلم والدم والسجون والمعتقلات وغياب العقل والعدل.
سألني: وجودك الآن قد يكون سبيلا لحل بعض ما ذكرته، فمصر تحتاج لوسيط محايد ونزيه تثق به كافة الأطراف!
أجبته قائلا: كيف لي أن أقف على الحياد وبلدي يحترق؟ كيف لي أن أجالس نيرون وأطلب منه السيطرة على النيران التي أشعلها في كل اتجاه؟
قال لي: كلامك من خارج النظام لا يُسمع، ولا يُقبل، أو يصنف أنه كلام من الأعداء، أما كلامك من الداخل سيكون نصيحة أصدقاء.
قلت له: هذا النظام لا يعرف ولا يريد أصدقاء، أو نصحاء، إنما يريد أتباعا لا يريد نصحاء مخلصين، بل يريد منافقين مصفقين هاتفين مؤيدين!! أي رجل طويل القامة في طابور الأقزام هو خارج على النظام.
قاطعني قائلا: مصر عامرة بشخوص كثيرة تقول "لا"، ولا أحد يشكك في وطنيتها، ومنهم من يفكر في الترشح للرئاسة، ومنهم من سيجد فيك مرشحا توافقيا للمعارضة بمختلف أطيافها ليبرالية وإسلامية.
قاطعته قائلا: هناك أسماء شريفة وكبيرة تحاول أن تقول "لا"، لكن قاموس النظام وإعلامه وإدارته لا يعرف كلمة "لا".. لا يعرف غير كلمة "نعم"، وكل من قال "لا" شريفة من الداخل طالته سهام القدح وحاصرته إجراءات القمع والتنكيل والتشويه.
قال هو: لكنك تُوصف بالهارب، ويمتد الطعن في وطنيتك وشرفك من خصومك وبعض أنصارك، بل من بعض من يُفترض تحالفك معهم ودفاعك عنهم.
قلت: لم يكن سهلا عليّ أن أُطعن في وطنيتي، أو ينال نفر قليل ممن تصفهم زورا بحلفائي من كرامتي، لكن من اختار أن يطهر جراح وطنه بالكحول، وإذا لزم الأمر يكوى بعض المناطق المصابة بالنار، يجب ألا يبتئس لو طاله بعض الشرر من لهيب نيران الكي، ويكفيني أني أشعر بالرضا عن نفسي وموقفي، فلست هاربا من شيء، ولا هاربا لشيء، بل إنني منفي خارج بلادي، التي تدعوني للعودة إليها، بينما النظام يرفض عودتي برفضه أن أحصل على حقي القانوني المدعوم بحكم قضائي واجب النفاذ بتسليمي جواز سفري، الذي بدونه يستحيل أن أعود لوطني، أو أذهب لأي وطن آخر غيره.
قال: إذا قررت العودة سيصلك جواز سفرك إلى منزلك، كما وصل لأحمد شفيق والبرادعي وآخرين، وأعدك بهذا فور أن تعلن عن رغبتك في العودة، أو خوضك للانتخابات الرئاسية القادمة.
قلت له: لم أتعود أن أقايض بعض حقوقي ببعض كرامتي وحريتي وقناعاتي واختياراتي.
قال: وهل اختيارك أن تبقى بالخارج بعيدا عن وطنك، ودورك الحقيقي؟ فماذا حققت في سنوات مضت، وأنت في الخارج؟ هل أنت راض باختزال دورك من سياسي وبرلماني ومرشح رئاسي وقائد حزب وقائد رأي إلى مجرد مالك لقناة فضائية؟!
فقلت له: لا أدعي أني نجحت كليا فيما كنت أرجوه - سياسيا - من دور في الخارج، ولا أدعي أني نجحت - إعلاميا - في تغيير اتجاه الريح، أو الطقس السياسي، أو أبطلت سحر السحرة أو كسرت طبولهم، أو أخرست طنين إعلامهم، ومرتزقة قنواتهم.. لكنني على الأقل حاولت وصمدت - للآن - ودفعت الثمن - وما زلت - دون أن أتراجع قيد أنملة عن موقف أؤمن به، أو رسالة أعتقد بصحتها، ويكفيني أن هذه القناة، التي تستهين بدوري في إعادتها للحياة بعد توقفها؛ باتت صوتا لكل مظلوم، وسيفا في وجه كل ظالم، منبرا حرا لا تحكمه القبعات الأيديولوجية أو الحزبية أو الطائفية، قناة ونافذة لكل المصريين مفتوحة لكل الآراء والاتجاهات والتيارات، حتى لو كان بعض ما يرد فيها لا يعبر عني شخصيا.
قاطعني قائلا: لكنك تتحمل سياسيا ثمنا باهظا لكل ما يقال في هذه القناة وتُعاقب أدبيا عليه.
قلت: لم يرهبني يوما في عهد مبارك الصلب، والسجن، والرجم، والتشهير، ولم يخيفني رجل غضبه يجعل الدنيا ترعد، وتمطر، في عز الصيف، فكيف يرهبني الآن تابع من توابعه ونفر من أزلامه، حتى ولو كان أكثر بطشا وفسادا وجهلا من سابقه.
قال: لماذا تختار الأدنى؟ أمامك فرصة الآن أن تسهم في بناء بلدك معنا دون أن تقدم تنازلات كبيرة. إني أُشفق عليك أن تُحسب على أشخاص أمثال (فلانة) و(فلان)، وأنا أرى ما ينشروه من فيديوهات ضدك، وتدير ظهرك لمن يحترمونك ويقدرون تاريخك ودورك حتى ولو اختلفوا معك، وليس أدل على هذا الاحترام من هذه المكالمة.
قلت: أولا: من يتنازلون، ومن ينكسون رؤوسهم، ويحنون ظهورهم، ويسجدون لظالم لا يصلحون لبناء دولة، أو إصلاح حال أمة.
ثانيا: إذا كنت تعيرني ببعض الطفيليات، من التجار الجدد هنا، فلديكم من هم أسوأ منهم، بداية من أحمد موسى نهاية ببكري، وعبد العال وغيرهم من حملة المباخر، وطبالي المواكب، وزعامات الوهم، وأصنام القش. لدينا هنا وهناك نخبة خائنة، بعضها يخدم النظام "هناك" بطريقة مباشرة وبعضها يخدمه "هنا" بطريقة غير مباشرة.
ثالثا: لم أركض يوما، خلف المواقع الرسمية، حتى ولو سبق وتنافست عليها. لم أكن يوما من فصائل الدواجن البيضاء التي اعتادت أن تعيش فى حظيرة النظام، وتنمو وتتناسل في ظله.
لم أقبل يوما أن أكون كومبارس، ولن أقبل هذا في المستقبل، ولن أكون محللا لنظام عسكري يقوده من يكره الحرية ويحتقر الديمقراطية.
أنا رجل يصلح للمعركة ولا يصلح للزفة، وما تدعوني إلى المشاركة فيه، هو زفة وليس معركة انتخابية.
قال لي: أنا في باريس وزورنا هنا قبر نابليون بونابرت.. ألم يكن نابيليون وكذلك ديجول عسكريا واستطاع أن يصنع ويبني وطنه!
قلت له: لست ضد العسكري كونه عسكريا، لكني ضد العسكري عندما يكون كارها للحرية وناقما على الديمقراطية. فنابليون استعان بأعظم خبراء وعلماء فرنسا ورجال السياسة فيها، لذا صنع إمبراطورية، ولو استعان بالفشلة والمنافقين والطبالين ما استطاع أن يفعل شيئا، وكذلك ديجول.
قال لي: ما رأيك أن نلتقي هنا في باريس لنكمل الحوار؟!
فقلت له: مرة أخرى أقول لك ليس لدي جواز سفر، وأضيف لك، وليس لدي رغبة في استكمال الحوار.
قال لي: لقد خيبت ظني في ذكائك، ويبدو أن قرارك أن تعيش وتموت خارج وطنك.
فقلت له: لا أعرف متى وأين سأموت، لكني على يقين أن شهداء الحرية لا يموتون أبدا.
وقبل أن أغلق الخط، طلب مني أن أمحو الرقم، ولا أسجله باسمه، وطلبت منه أن أنشر ملخص ما دار بالمكالمة دون الإشارة لاسمه. واتفقنا على هذا، وكان هذا هو الاتفاق الوحيد (!!).