خلال شهرين فقط، أطلق ولي العهد السعودي محمد بن سلمان مشاريع اقتصادية واستثمارية بمئات المليارات من الدولارات.
"
نيوم" هو آخر الصيحات الحداثيّة التي يقودها ولي العهد التي تأتي مترافقة مع مشاريع أخرى نُسِبَ الفضلُ فيها إليه، كإطلاق مشروع البحر الأحمر (أو ما يعرف بمشروع البكيني)، وكذلك مشروع "تدمير التطرف فورا"، ومشروع "تنقية الأحاديث النبويّة" و"مشروع السماح للمرأة بالقيادة" وغيرها من المشاريع الداخلية الضخمة التي أحدثت ضجّة عالمية فيما يتعلق بحجمها أو مضمونها مؤخرا، بالإضافة إلى المشاريع التي سبقتها كرؤية 2030 والتحالف العربي في اليمن والتحالف الإسلامي ضد الإرهاب.. إلخ
الكلام عن هذه المشاريع جميل، كما أن التنظير حول توقيت إنجازها يترواح بين "الآن فورا" وبين "عام 2030"، أمّا مضمونها فهو خارج إمكانات المملكة بكل بساطة.
التجربة التاريخية للسعودية في موضوع المشاريع الضخمة تثبت أنها مجرّد مفرقعات إعلامية إن صح التعبير.
لا يجب أن يمنعنا ذلك من الاعتراف بأن هناك تقدما ملحوظا من دون شك لناحية نوعية المفرقعات وحجمها وطريقة تسويقها أيضا، وهي تعبّر عن محاولة لاستنساخ تجربة دبي على هيئة
السعودية، لكن كثيرين يتوقعون أن تكون النتيجة الطبيعية لمثل ها الاستنساخ ولادة مسخ مشوه.
لكن دعونا من مناقشة التاريخ ولنتحدث عن إمكانات اليوم لصنع المستقبل، فالمشاريع تتحدث عن المستقبل في نهاية المطاف.
بعض المشاريع المطروحة تفوق قدرات المملكة المالية والبشرية والعلمية بأشواط كبيرة، ولا يتوافر لها أي مقومات فضلا عن بيئة صالحة لتطبيقها.
في حقيقة الأمر، هذه المشاريع -مثل مشروع "نيوم"- تبدو وكأنها من الفضاء الخارجي كما اعترف ولي العهد السعودي بنفسه.
يقول محمد بن سلمان في مقابلة مع بلوومبرج، "لم يكن هناك رغبة في تسمية المشروع بأي اسم عربي أو لاتيني لأنه يمثل قفزة حضارية للإنسانيّة، مضيفا أن "قرار اختيار اسم المشروع كان صعباً، فأقمنا ورشة عمل.. توصلنا إلى "نيوم" وتشعر كأنه اسم من الفضاء الخارجي" انتهى الاقتباس.
إذا كان الاسم يشعرك بأنّ المشروع من الفضاء الخارجي، فماذا عن المضمون؟ بالنسبة لي ولكثير من المراقبين، الوصف الأدق للمشروع هو مصطلح "
دليوم" وليس "نيوم".
المصطلح مكوّن من شطرين، الأول مشتق من الكلمة الإنجليزية (delusion) وتعني "وهم"، والثاني من الكلمة العربية "يوم"، فيصبح المعنى كاملا "الوهم اليوم". ليس هذا تقليلا من شأن الفكرة وإنما هو محاولة للتعريف بالفرق بين الطموح والوهم.
وفقا للتفاصيل المنشورة عن مشروع "نيوم"، فإن تكلفته ستفوق الـ500 مليار دولار، ستخصص الأموال لإقامته على منطقة شمال غرب المملكة بطول 468 كلم، وبمساحة تزيد عن 26000 كلم2 لتخدم رؤية المملكة لعام 2030.
بما أن بعض المسؤولين يحبّون المزج هذه الأيام بين الجغرافيا والسياسة فيُقال مثلا أن المشروع الفلاني أكبر من الدولة الفلانية، فإنّ مشروع "نيوم" سيكون أكبر من حجم إسرائيل بحوالي 20%، لكن ما هو رأي المعلّقين الإسرائيليين بهذا الأمر؟
يقول دافيد روزنبيرج: "من المستحيل أن يتم بناء هذه المدينة لتكون سعودية خالصة، فالمملكة تفتقد إلى المهارات والقدرات الإبداعية اللازمة لتلبية احتياجات القطاعات التي ستكون موجودة في "نيوم" كالتكنولوجيا الحيوية والتصنيع المتقدم أو حتى الترفيه على مستوى عالمي، وذلك بالرغم من عقود من الإنفاق في مجالات التعليم والبنية التحتية".
ويضيف: "26% فقط من السعوديين الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و34 سنة لديهم تعليم عالي، وهي نسبة أقل بكثير من معدّل النسبة الموجودة عند الدول النامية -وليس المتطورة- التي تبلغ 42%. الطلبة السعوديون يأتون في مؤخرة الترتيب في الامتحانات الدولية وحوالي ثلث السعوديين لم ينهوا حتى الثانوية".
من الصعب مضاهاة الأرقام في النقاشات، لكنّ هذه الأرقام ليست للتقليل من شأن السعوديين بقدر ما هي تقييم لمدى واقعية المشروع.
في نهاية المطاف لا يوجد شعب ذكي وآخر غبي، إنما يوجد شعب يتم توفير البيئة المناسبة له لتحقيق التفوق والنمو والتطور والإبداع وآخر يتم حرمانه من هذه البيئة ويحاول البعض أن يعوضّه عن ذلك بالكثير من الكلام ومخدرات الدعاية والاعتماد على المال السهل، والقليل من العمل.
وفقا لمكنزي، فإن حوالي 70% من الموظفين السعوديين يعلمون في القطاع العام، أي أكثر من 3 مليون موظف لكن ما هو مستوى الإنتاجية لدى السعودية؟
وفقا لوزير الخدمة المدنية السابق خالد العرج، فإن عمل كثير من هؤلاء الموظفين السعوديين لا يتعدى ساعة واحدة فقط لا غير في اليوم.
للمفارقة، فإن حديث الوزير العام الماضي (2016) جاء خلال نقاش حول الإصلاحات اللازمة لتمكين الاقتصاد السعودي من تحمّل ضغوطات انخفاض أسعار النفط، وهو نفس الموضوع الذي يتم ترويج المشاريع الضخمة من أجله اليوم.
إذا، مستوى التعليم متدن، ومستوى الإنتاجية متدن، والبيئة السياسية والقانونية تسلب السعودي القدرة على الإبداع، والاعتماد على المال السهل دمر الاستقلالية الذاتية للفرد والجماعة.
ومع ذلك، تقوم السلطات وأذرعها بالترويج لمشاريع أسطورية خلال فترة وجيزة.
الفترة الزمنية اللازمة لإنجاز هذه المشاريع وفق المروّجين أنفسهم غير واقعية يتحدثون عن عقد وعقدين من الزمن، وهذا ليس كافيا حتى لانطلاق هذه المشاريع فضلا عن الانتهاء منها. هناك تناقض صارخ بين التسويق للتنظير وبين الواقع، وهذه الفجوة تزداد ولا تنقص مع مرور الوقت.
السعودية مدمنة على النفط والنظام السعودي مدمن على المال السهل، وهذه المشاكل لا يحلها ترويج لمشاريع وهمية، أو قفزات اعتباطية في المجهول.
تنويع الاقتصاد السعودي وتخفيف الاعتماد على النفط كان ولا يزال يطرح ضمن الخطط الحكومية منذ عقود طويلة، ولم يتم تحقيق تقدّم يذكر في هذا المجال.
النظام السعودي معروف بنفسه القصير وبعشوائيته في التنفيذ. قبل أقل من عام فقط، قال محمد التويجري، نائب وزير الاقتصاد والتخطيط السعودي، إن السعودية ستعاني من الإفلاس حتماً خلال 3 إلى 4 سنوات إذا بقي الوضع على حاله.
وأشار في الوقت ذاته إلى أن 90% من دخل السعودية يذهب إلى الرواتب والديون، مضيفا: "اعتمادنا على النفط اعتماد بحت، هناك مشروعات نفذتها الدولة خلال العقد الماضي من دون تخطيط، ولا عوائد لها".
ماذا الذي جرى حتى يتم الانتقال من وضعية الإفلاس إلى وضعية مشاريع بمئات المليارات؟
باختصار ولي العهد السعودي يخطط لبيع آخر ما يمتلكه الشعب السعودي، وهو شركة أرامكو وجمع أموال من بيع وتخصيص المؤسسات الحكومية من أجل استثمارها.
الوصول إلى هذه المرحلة هو تعبير عن الإفلاس بحد ذاته، فدولة مثل النرويج على سبيل المثال تمتلك صندوقا سياديا يتفوق على جميع الصناديق الخليجية ويبلغ حجمه حوالي تريليون دولار أي بحجم اقتصاد دولة مثل المكسيك.
حققت النرويج ذلك خلال 20 عاما فقط من بدء استثمار عوائد النفط لديها، ولذلك فعندما نسمع أن السعودية ستبيع ما تمتلك لتأسيس صندوق للاستثمار مقارنة بأدائها السابق وما توافر لديها من أموال خلال عقود طويلة، لا يمكننا أن نكون متفائلين.
باختصار، ما يتم تسويقه الأن هو مجرّد "دليوم".