هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لعل من أهم مظاهر الوضع "الانتقالي" في تونس- وهو وضع مفتوح على أكثر من إمكان تاريخي سلبا وإيجابا- شيوع بعض الخطابات التي كان مجرّد دورانها حتى في عهد المخلوع ضربا من الاستحالة. ولعلّ ما يزيد من "سريالية" الوضع الانتقالي، هو مواقع التلفظ بتلك الخطابات التي يمكننا القول منذ البدء بأنها "متناقضة ذاتيا" وأقرب إلى "الشعبوية" والتلبيس منها إلى الحجاج العقلاني. ورغم "عموم البلوى" بهذه الخطابات بحكم صدروها من مواقع تلفظ الإسلامية والعلمانية على حد سواء، فإننا سنشتغل في هذا المقال على أحد التجليات "النموذجية" للعقل التقدمي "الوظيفي" الذي احتاجت إليه المنظومة الحاكمة قبل الثورة وبعدها، ألا وهو برهان بسيس وذلك من خلال مسألة مفردة هي: الحاجة إلى ما أسماه المنظر السياسي لنداء تونس "الحجاج بن يوسف الديمقراطي".
في ظهوره الأخير على إحدى القنوات التلفزية الخاصة، تحدث المكلف بالشؤون السياسية في نداء تونس عن الوضع السياسي الحرج الذي تمرّ به البلاد. وهو وضع لا يختلف التونسيون في توصيفه ولكنهم يذهبون مذاهب شتى في تفسيره وفي اجتراح الحلول الممكنة له. وليس يعنينا في هذا المقال إلا "الحل السحري" الذي قدّمه "التقدمي" و"الحداثي" برهان بسيس للخروج من هذا المأزق التاريخي: الحجاج بن يوسف الديمقراطي. فتونس هي الآن -حسب برهان بسيس- مثل العراق قبل أن يُرسل إليها عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف. فبالنسبة إلى "خادم الدولتين"-دولة التجمع المنحلّ ودولة ورثته في نداء تونس- لا يمكن للثورة ولا للعقل السياسي الحديث ولا لمنظومة حقوق الانسان ولا للحركات الإصلاحية أن تشفع لتونس وتنقذها من هذه المقايسة التأسيسية التي ستبرر بالضرورة ما ينتج عنها. ولكن ماذا سينتج عنها بالضبط؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال، قد يكون علينا أن نفسر للقارئ معنى أن يكون "التقدمي" الذي يبني رأسماله الرمزي-وامتيازاته الاجتماعية كلها- على معاداة "الرجعية الدينية" و"الظلامية" الوهابي الأخير، أي أن يندرج –من حيث لا يحتسب- في فقه سلطاني أمضى عمره كله في محاربة المنتمين إليه وتبرير سياسات الدولة القمعية ضدهم –بل ضد كل من يجهر بمرجعية إسلامية احتجاجية أو قابلة للتحول إلى مرجعية احتجاجية-.
تأتي "وهابية" برهان بسيس المذكورة في العنوان على معنيين: أما المعنى الأول فهو مرتبط بالبعد الاتصالي أو بالثقافة الإعلامية التي أشرف عليها وكرسها سيء الذكر عبد الوهاب عبد الله الذي كان رجل المهمات الإعلامية القذرة، ورجل النظام في التعامل مع "كلاب الحراسة الإيديولوجية" من مرتزقة الإعلام بمختلف منابره المكتوبة والمسموعة والمرئية. وهذا المعنى الأول هام -لأن الحجاج بن يوسف الديمقراطي الذي يبشّر به برهان بسيس- سيحتاج إلى "وهابية إعلامية" توفر له "التغطية الإعلامية" (أي الحجب والتعمية) من جهة أولى، وتقوم بتزييف الوعي لدى المتلقي من جهة ثانية. وليس يعنينا هذا البعد الوهابي الأول إلا من حيث تعلقه بالبعد الوهابي الثاني، أي الاندراج "اللاواعي" في أفق التفكير السياسي الوهابي (نسبة إلى محمد بن عبد الوهاب)، وتحديدا أفق ذلك التفكير في مرحلة الدولة (تقديم مبدأ طاعة الحاكم وتبرير سلوكه مهما كان مخالفا للشريعة) على مرحلة الثورة/الدعوة (تقديم طاعة النص وفرض تمثلاته الأكثر صدامية وحدّية على الحاكم ذاته).
بهذا المعنى يكون برهان بسيس "وهابيا" يدعو -ظاهريا- إلى تغليب مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد، أي تغليب قيمة "النظام" L’ordre على الحرية. ولكن هل يمكن للحجاج بن يوسف "الديمقراطي" أن يؤدّيَ هذا الدور، وهل كان المكلف بالشؤون السياسية في الحزب الحاكم يقصد "المستبد العادل" أم إنه يريد نحت صورة مستأنفة يراها أقدر على حكم الواقع التونسي من "المستبد العادل" الذي كان جزءا بنيويا من الأدبيات السياسية في عصر النهضة العربية؟
ولكنّ التقاء برهان بسيس فكريا مع الوهابية في "الدفاع" عن الحجاج بن يوسف الثقفي لا يكفي لجعلنا نسميه بـ"الوهابي الأخير". فرغم أن بعض مواقع الوهابية وأدبياتهم تمجّد الحجاج من طرف خفي، بل تعتبره أحيانا "مفترى عليه" من لدن "الروافض"، ورغم أنه لا يخفى أنّ دفاع الوهابية عن الحجاج أو الاعتذار له غير منفصل عن الأسباب الطائفية التي تكاد ترهن العقل السياسي "السعودي" وتوابعه- فإنه لا يمكن لهذا الالتقاء، فإن هذا التشابه – حتى لو أضفنا إليه الاندراج ضمن الاستعارة الرعوية والالتقاء الموضوعي بين العلمانيين والوهابية السعودية في معاداة الإسلام السياسي وممثله الأبرز، أي الحركات الإخوانية-، لا يمكن أن يبرّر وسم برهان بسيس ب"الوهابي الأخير". فلماذا إذن نعتبر هذا "التقدمي" –رغم كل ادعاءاته وعنترياته- "الوهابيَ الأخير"؟
اجتنابا للتفصيلات التي لا لمقال صحفي سيّار، يمكننا أن نقول إنّ برهان بسيس هو "الوهابي الأخير" لأنه يمثل الاختراق الأقصى للعقل السياسي السلطاني(ووريثه الوهابي) للنخبة السياسية "العلمانية" بحيث جعلتها تنحدر حتى عن سؤال النهضة العربية وخياراتها التي عبّر عنها جمال الدين الأفغاني أو الكواكبي أو محمد عبده. فمع هذا "التقدمي" لم يعد المطلوب هو البحث عن "مستبد عادل" يجد صورته التراثية المثلى في عمر بن الخطاب (رض) –رغم كل الاعتراضات التي قد توجّه لاعتبار عمر مستبدا عادلا قياسا إلى التراث الأروبي-، بل أصبح المطلوب هو "رجل دولة" يكون حجّاجا ولكنه يكون أيضا "ديمقراطيا". وبالطبع فإن برهان بسيس لا يرى نفسه معنيا بكيفية تحول "الحجاج" إلى ديمقراطي أو بيان ما يتبقى من هويته التراثية عندما يصبح ديمقراطيا، ولا يفسر لنا أيضا كيف لا يجد حرجا –ولا يحس بأي انفصام نفسي- وهو يساند "تيار الممانعة" بقيادة الشيعة بينما يمجد أحد أعظم أعدائهم في التاريخ. بل إنه لا يرى نفسه معنيا بتفسير أسباب رجوعه إلى الاستعارة الرعوية ولا أسباب إعراضه عن صورة المستبد العادل التي ارتضاها المصلحون زمن النهضة العربية. فهو معني فقط بتشغيل المخيال الطائفي الذي لم يخرج بعد من أفق الاستعارة الرعوية ولا من هيمنة الخطابات الطائفية وإن بصورة لا واعية أحيانا. فكأنما "المعارضون" التونسيون حسب هذا الطرح هم "شيعة" البلاد (وهنا يلتقي برهان بسيس موضوعيا مع الوهابية في "المخيال السياسي" بعد أن التقى بهم في الموقف السياسي من الحركات الإخوانية ومن الثورات العربية).
إنّ برهان بسيس هو أيضا "الوهابي الأخير" لأنه يدفع بالوهابية إلى نهاياتها المنطقية التي لا تستطيع أن تعترف بها أو تتحمل تبعاتها: النموذج المثالي للحكم وللتعامل مع الخصوم (السياسيين والعقائديين) هو الحجاج وليس عمر بن الخطاب (كما تدعي الأدبيات الرسمية للوهابية التي تمدح الفاروق وتسير على نهج الحكم الجبري) أو النظام الديمقراطي (كما يدعي برهان بسيس القادم من خلفية يسارية ستالينية و"المكلف بمأمورية" عند المنظومة الحاكمة قبل الثورة وبعدها)، وهو ختاما، "الوهابي الأخير" لأنه يمثل "العلمانية الوظيفية" أو "الحداثة الوظيفية" التي لا يمكن أن تشتغل إلا بتكريس الرأي الوهابي باستحالة التوفيق بين الإسلام والديمقراطية، أي باستحالة التسليم بالإرادة الشعبية مصدرا للشرعية. ولا يخفى على أي مطلع على الشأن التونسي طبيعة العلاقات الاستراتيجية بين الوهابية السعودية والعلمانيين التونسيين خاصة في ملف "الإسلام السياسي" وضرورة إفشال أي علاقة "تشاركية" أو لا تديرها مفردات الصراع "الوجودي" بين النهضة وباقي الفاعلين السياسيين.
ختاما، من هو "الحداثي" الذي لا يجد حرجا في التبشير بالحجاج بن يوسف "الديمقراطي"، غير ذلك "التقدمي" الذي يجد سلفه الأعلى في مسيلمة الكذاب؟ وكيف يمكننا فهم "المشروع المجتمعي التونسي" في ظل عقل سياسي يجد مرجعيته ومثاله في "الملك العضوض"، بل متى نستطيع أن نرتفع –مع أفول النخبة ودجلها- إلى مستوى الدولة البوليسية، تلك الدولة التي يميزها بعض فقهاء القانون الدستوري عن الدولة الاستبدادية-التي يبشر بها برهان بسيس- باعتبار أن الحاكم في الدولة البوليسية يكون مقيدا بمصلحة الجماعة لا بمصلحة العائلة أو الفرد؟ وهل إن أفق الدولة المدنية هو أفق ممكن في ظل نخبة تبحث عن "الحجاج الديمقراطي"، أو "ستالين المُتونس"، وماذا يمكننا أن ننتظر من اقتراحات في ظل نخبة لم يبق لها من حداثتها إلا "تأنّقات لفظية مدارها الفراغ" على حد عبارة ذلك الناقد الروسي الشهير؟