زعمت صحيفة "القدس العربي" أن الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس؛ سرّب للملك الأردني مضمون ما طرحه عليه ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، حينما استدعاه إلى الرياض الشهر الماضي، إذ قال له، والعهدة على الصحيفة المذكورة: "أغلق صفحة القدس وحق العودة واللاجئين؛ واتجه لدولة في قطاع غزة، وستهطل عليك الأموال".
المؤكد أنّ فحوى ذلك اللقاء ما يزال مجهولا، وهو أمر يبعث على ريب يتصاعد للاقتراب من تصديق هذا التسريب، لا سيما مع تلميحات متعددة لا يخلو منها كلام مستويات في السلطة الفلسطينية، ومع تسريبات تكاد تبلغ درجة التصريح بوجود خطّة ما لترامب بخصوص القضية الفلسطينية، ومع تصريحات فلسطينية، أدلى بها مسؤولون فلسطينيون عدّة مرات، منهم الرئيس محمود عبّاس نفسه، عن مقترحات مصرية بضم أجزاء من سيناء لغزة وإقامة الدولة الفلسطينية عليها.
كاتب هذه السطور كان - في كتاباته - يرجّح وجود تصورات ما بخصوص القضية الفلسطينية، تدور في رأس ترامب ونتنياهو وعبد الفتاح السيسي، منذ مجيء ترامب إلى البيت الأبيض، بيد أن التطورات الجديدة هي تلك المتعلقة بالتدخل السعودي في المسألة.
ثمة انعطافة حادّة في سياسات الحكم بالسعودية، لا يمكن فصلها عن الموضوع الفلسطيني، وبعضها بالضرورة واضح الارتباط بالموضوع الفلسطيني
دون مزيد تحليل في دوافع الحكم السعودي، ودون إحكام لتحليل تلك الدوافع بربطها بمجمل الظروف التي يمرّ بها الحكم السعودي الحالي، من تحديات داخلية وخارجية، ترجّح استناده لقوى دولية وإقليمية معادية للفلسطينيين، فإنّ ثمة انعطافة حادّة في سياسات الحكم، لا يمكن فصلها عن الموضوع الفلسطيني، وبعضها بالضرورة واضح الارتباط بالموضوع الفلسطيني.
كانت حملة الاعتقالات التي شنها الحكم السعودي، على عدد من الدعاة والمثقفين، غير واضحة الأسباب، بالرغم من ربط البعض لها بالصراع الداخلي على الحكم بين أبناء العمومة في الأسرة
السعودية الكبيرة، أو بحصار قطر. وقد سبق تلك الحملة؛ منع بعض الدعاة والمثقفين من الكتابة، حتى من التغريد على موقع تويتر، وتقييد موضوعات بعضهم، إذ كان واضحا أنّ أكثرهم شهرة ومتابعة ممنوع من الحديث في القضية الفلسطينية.
قبل أكثر من ستّة شهور، شُنّت حملات سعودية منظّمة في موقع تويتر، تزعم كراهية الفلسطينيين للسعودية، ونكرانهم لجميلها، وتضخّم من طبيعة الدعم السعودي للقضية الفلسطينية، وتتّهم الفلسطينيين ببيع أرضهم للصهاينة، وتدعو للتخلّي عن القضية الفلسطينية.
اللافت حينها، أنّه لم يكن ثمّة أحداث تدعو لمثل هذه الحملة، التي بدت منظّمة ومركّزة، وشاركت فيها شخصيات معروفة، وهو الأمر الذي دلّ بالضرورة على رضا توجهات الحكم الحالي عنها، ولا سيما مع اشتراك الصحافة الورقيّة المحليّة فيها. بكلمة أخرى، لا يمكن، في السعودية على وجه الخصوص، إدارة حملة بالغة الغرابة والشذوذ، دون وجود توجّهات عليا تتبناها وتدفع نحوها.
بعد ذلك انفجرت قضية البوابات الالكترونية وأدوات المراقبة؛ التي أراد بها الاحتلال فرض وصايته على المسجد الأقصى. وقد خشي الفلسطينيون أن تكون تلك الخطوة مجرد مرحلة تمهيدية للوصول إلى تقسيم المسجد الأقصى. في الأثناء، استمرت الحملات الإلكترونية السعودية في موقع تويتر بنفس خطاب الكراهية تجاه الفلسطينيين، مع إضافات أكثر جرأة وخطورة طالت المسجد الأقصى نفسه، مع صمت سعودي رسمي، رافقه صمت على منابر الحرمين، وصمت مشاهير الدعاة على موقع تويتر.
فجأة انقلب ذلك الصمت إلى حالة صاخبة، بعدما كسر الفلسطينيون، والمقدسيون منهم على وجه التحديد، إرادة الاحتلال، وأجبروا نتنياهو على تفكيك أبوابه الالكترونية وكاميراته، فزعم السعوديون أن تدخل الملك سلمان لدى الأمريكان هو الذي أجبر الاحتلال على التراجع.. هنا انتقلت الحملة إلى تطعيم خطاب الكراهية تجاه الفلسطينيين؛ بالمزيد من عبارات المنّ والأذى واتهام الفلسطينيين بنكران الجميل!
كان يحضر دائما الحديث عن تطبيع سعودي إسرائيلي سرّي، وعن دور للسعودية فيما يُسمّى "صفقة القرن"، أي صفقة التخلّص من القضية الفلسطينية وتصفيتها نهائيا
في الخلفية، كان يحضر دائما الحديث عن تطبيع سعودي إسرائيلي سرّي، وعن دور للسعودية فيما يُسمّى "صفقة القرن"، أي صفقة التخلّص من القضية الفلسطينية وتصفيتها نهائيا.
لكن في مقدمة المشهد، كانت تحضر دائما حملات الذباب الالكتروني التي تثير الكراهية ضدّ الفلسطينيين، وتدعو للتخلّي عن قضيتهم، مع غياب تامّ لمشاهير الدعاة عن التدخل. فبعضهم في السجن، وبعضهم ممتنع حتى عن الإشارة لفلسطين أو القدس، بالرغم من مساهمة بعض مشاهير المثقفين ممن يُدعون بـ"الليبراليين" في تلك الحملات، وعلى نحو ينبغي أن يُصنّف في دائرة الخيانة، كتبني الرواية الصهيونية الاستعمارية بخصوص الحقّ التاريخي في فلسطين والترويج لها!
قبل إعلان ترامب الأخير الذي اعترف فيه بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، وقرّر فيه نقل عاصمة بلاده من "تل أبيب" إلى القدس، كانت تلك الحملات قد نشطت من جديد فجأة بلا مقدمات واضحة، في هذه الحالة، الأحمق وحده الذي يمكنه أن يصدّق أن المسألة محض صدفة!
استمرّت الحملات على حالها، حتى بعد إعلان ترامب، واستمرّت القضية الفلسطينية غائبة عن منابر الحرمين، التي تحدّثت عن برد الشتاء وحرّ الصيف، واستمرّ غياب مشاهير الدعاة الذين اكتفى بعضهم بنشر صور الجوارب النسائية والحديث عن حكم المسح عليها، واستمرّ غياب الدعاة الأكثر ارتباطا بالقضية الفلسطينية داخل السجون.
باتت الحماقة إذن، هي اعتبار ذلك كلّه مصادفة، وأنّه لا علاقة له بمشاريع ترامب التصفوية للقضية الفلسطينية، وجولات صهره كوشنير، الذي صار يوصف بأنّه وليّ أمر بعض الحكام العرب الآن!
الهبّة العربيّة التي شقّت طريقها من ركام اليأس والطغيان والاستبداد والتردّي والتآمر والحروب الأهلية، شقّت طريقها من ذلك كلّه لأجل القدس، ينبغي أن تعطي درسا للأغرار من الطغاة الجديد
الهبّة العربيّة التي شقّت طريقها من ركام اليأس والطغيان والاستبداد والتردّي والتآمر والحروب الأهلية، شقّت طريقها من ذلك كلّه لأجل القدس، ينبغي أن تعطي درسا للأغرار من الطغاة الجدد.
والمواقف الدولية على تواضعها، ينبغي أن تعطيهم درسا إضافيّا بأن أمريكا ليست إلها، وأنّه يمكن أن يقال لها "لا".
والمواقف التركية والإيرانية، وأيّا كانت صوابية الأوصاف التي تُطلق عليها من كونها صوتية وتتاجر بالقضية الفلسطينية، تعطي درسا بأنّه يمكنك أن تدخل التاريخ من أوسع أبوابه باسم هذه القضية المباركة، دون أن ينعكس ذلك بالخطورة على حكمك!
لكن الدرس الأبلغ، من هذه القضية نفسها، التي تثبت، مرة بعد مرة، وبعد كل حالة يأس وانطفاء، استعصاءها على الانطماس والإمحاء، ولولا ضيق المقام، ولولا أن الأغرار من الطغاة الجدد لا يقرؤون التاريخ، لتوسعنا في بيان إثبات هذه القضية نضارتها وحيويتها وقيامها الدائم، رغم كل ما مرّ عليها من أحداث عظام.
والدرس الآخر الأبلغ، من القضية نفسها أيضا، موقعها العميق في الضمير الجمْعيّ للأمّة، التي مرّ عليها ما مرّ من محاولات سلخها عن هذه القضية، وصُبّ عليها ما صُبّ من دعايات تشويه للقضية وأهلها، إن الأمر أعمق مما يبدو للأغرار من الطغاة، وكراهية هذه الأمّة لمحتلّي فلسطين أعمق من أن تستبدل بها كراهية الفلسطينيين!