لا أعرف من صك مصطلح "الصهاينة العرب"، مقابلا لصهاينة الكيان
الإسرائيلي، وهو مصطلح معبر بكل ما تعنيه الكلمة، ويذكرني بمصطلح صكه العلامة الشيخ
محمد الغزالي في أربعينيات القرن العشرين، عندما أطلق على عملاء الاستعمار في بلادنا
العربية، الذين يتمنون عدم زواله عن بلادهم، ويدافعون عنه أكثر من أهله، فأطلق عليهم:
"الإنجليز السُّمْر".. فالإنجليزي المحتل معروف بملامحه البيضاء وشقاره،
بينما أهل بلادنا يغلب على معظمهم سمار اللون، فجعل من منهجهم منهج الإنجليز، لكن اللون
لون بلادنا، وليس له انتماء لها إلا لون بشرته فقط.
وهذا ديدن الاستعمار في بلاد المسلمين، فهو يدخل البلاد بالآلة العسكرية،
ولكنه يبحث عن وسائل ناعمة تساعده في دوره، وتمكنه من أهل البلاد، تفت من عضد المقاومة
والنضال ضده، ليطول زمانه قدر الإمكان، لنهب الثروات، وتخريب البلاد والعباد، وتخذيل
الأمة عن مقاومته.. وكل مرحلة لها متطلباتها، فعندما أراد المستعمر الإنجليزي إضعاف
روح الجهاد ومقاومته في الهند، أنشأ باسم الإسلام جماعة (القاديانية)، وهي تسلم للمستعمر
بالبقاء آمنا في بلاده، راغدا في العيش فيها، مستمتعا بكل ثرواتها، وليس على أصحاب
البلد إلا التسليم، والرضا..
كل ذلك لو تم باسم السياسة لن يكون له أي أساس من القبول، لكن الأخطر
أنه كان باسم الدين. فباسم الدين؛ عليك أن تستسلم وتسلم لعدوك، وهو ما تم الآن في بلادنا
العربية مع قضية
القدس وفلسطين، فصنع العدو من بيننا "صهاينة عرب" لا يتوافقون
معنا إلا في لون بشرتهم، لكن العقل والقلب والهوى صهيوني مئة في المائة. بل ربما زادوا
وتعصبوا في ولائهم للصهيونية أكثر من الصهاينة أنفسهم.
للصهاينة العرب ألوان يتلونون بها، ولكن تفضحهم مواقفهم في القضايا الكبرى
المهمة في أمتنا، وبخاصة قضية القدس، وهو ما يوضح مواقفهم من القضية منذ سنوات قليلة،
وربما أشهر كذلك.. فما معنى أن يظهر يوسف زيدان منذ بضع شهور ليقول: إن مكان المسجد
الأقصى ليس في
فلسطين، بل في السعودية في منطقة تسمى "الجعرانة"؟ وكأن مشركي
العرب في زمان النبوة كانوا جهلاء بذلك، عندما جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في
رحلة الإسراء والمعراج، وأنهم يضربون أكباد الإبل شهرا ذهابا وشهرا إيابا، وهو يخبرهم
أنه ذهب في ليلة. فلو كان في الجعرانة، وهي قريبة منهم، لسكتوا وصدقوا.. كأني بكل هؤلاء
المشركين وغيرهم كانوا جهلاء، وعرفوا هذا الأمر وصمتوا عنه، ليأتي فلتة زمانه، يوسف
زيدان، فيعيد اكتشاف ما لم يكتشف، ويتردد الأمر، ويفرد له الإعلام، وتبقى نقطة وسوسة
وشبهة تردد..
كل ذلك تفتيتا لعقيدة المواطن العربي المسلم تجاه القدس. فقد كانت وسائل
الإساءة للقضية الفلسطينية قديما؛ وسائل بدائية، من أن الفلسطينيين باعوا أرضهم، فلما
بدأ وعي الناس يزداد في هذه المسألة، ويتضح للناس كذب هذه الفرية، تغيرت وسائل الصهاينة
العرب، لتأخذ منحى آخر، وعلى يد من يفترض فيهم أنهم نخبة، وأنهم من الأكاديميين.
وقد يحتاج الصهاينة العرب لأن يكون لخطابهم مسحة دينية، فلا مانع من أن
يكون نجم هذه الفقرة سعد الدين الهلالي، ليخرج للناس بأنه من قال: "لا يجب أن
ندافع عن المسجد الأقصى حتى لا ندخل في حرب دينية مع اليهود، معللا ذلك بأن الأقصى
بتاع ربنا مش بتاعنا"!! ليتحجج بذلك كل متخاذل بأن الدين لا يفرض علينا ذلك، وهو
يعلم أن كلامه ينطوي على جهل وضلالة.. فالدين الذي يحث المسلم على الدفاع عن مظلوم
مشرك في أي بقعة من الأرض، كيف سيتخلى عن إخوانه في العقيدة، يقول الله تعالى:
"وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ
الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا
مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا
وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرا" (النساء: 75). وقال عن حماية مقدسات غير
المسلم: "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ
صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا
وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ ينصره" (الحج: 40). وقال المفسرون في ذلك: أي ولولا
ما يقوم به المسلم من جهاده ضد الظلم، لهدمت كل هذه الدور للعبادة، وأن من أهداف الحرب
في الإسلام: حماية أماكن العبادة، فكيف يطلب الإسلام من المسلم حماية مقدسات الآخرين،
بينما لا يطالبه بحماية مقدساته؟
بعض حيل الصهاينة العرب تنطلي للأسف على بعض شبابنا وبعض جماهير المسلمين،
وهو ما نراه من بعض العرب وتصريحاتهم، من أحقية الصهاينة في أرض فلسطين والقدس، وأنها
تاريخيا أرضهم، وأن القرآن نص على ذلك، وهو كلام أشبعه العلماء ردا من نصوص الكتاب
المقدس نفسه، قبل القرآن الكريم، وأنه لا أحقية تاريخية أو دينية لهم في القدس ولا
فلسطين. وهو ما يلقي بتبعة كبيرة على العلماء والمثقفين والمفكرين، بالقيام بدورهم
في التذكير بالقدس، وتاريخها، ومكانتها الدينية، حتى لا ينطلي على الناس زيفهم، لتكون
الحقائق كعصا موسى أمام باطلهم وسحرهم: "تلقف ما يأفكون".
[email protected]