مذكرات عاكف

صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (13)

محمد مهدي عاكف - جيتي
محمد مهدي عاكف - جيتي

رحلة هروب

كان الهروب في ذلك الوقت مشكلة كبيرة، لا يقوى عليها إلا القليل. أثناء هروبي، وأنا أقود سيارتي - التي كنت أغيرها بين الحين والآخر - فوجئت بسيارة ضخمة تطاردني، ثم وقفت أمامي، وإذا بالذي يقودها ابن المهندس محمد حسن، صاحب مدينة محمد حسن بالهرم، وكان تلميذا عندي بمدرسة فؤاد الأول، ودعاني لمنزله لتناول الغداء، وقال إنني أعرف ما يراد بك، فاتبعني.. وسرت بسيارتي خلفه، حتى أدخل سيارتي الكراج، ودخلت عنده، وقمت بتغيير ملابسي والاستحمام، ثم تناولنا الغداء واسترحت لبعض الوقت. وقبل الانصراف، وجدت جميع ملابسي قد غسلت، وقاموا بكيها، فحمدت الله وانصرفت.

ومن الأحداث التي وقعت معي، أنني كنت أغير سيارتي بين الحين والآخر لدواع أمنية - كما قلت - وكانت سيارتي ماركة فولكس فاجن. وفي يوم من الأيام، قابلت الأخ محمود حسن، شقيق الشهيد صلاح حسن، وطلب مني أن أكلفه بأي عمل، فقلت له: تعال معي واركب السيارة الفولكس؛ لأنني أحضرت سيارة أخرى من الإسماعيلية، وسر خلفي حتى نضعها في كراج بالفجالة. وفي هذا اليوم، أخبرني يوسف طلعت بأن كل أجهزة الحكومة تبحث عني وعن سيارتي. وفوجئت، وهو يسير خلفي، بأن أوقفه كونستبل يركب موتوسيكل - وهو كأمين الشرطة اليوم - وطلب من الأخ محمود حسن أن يتبعه إلى قسم الأزبكية، فما كان مني إلا أن أوقفت سيارتي بعيدا عنه، وذهبت إليه وقلت له: اذهب معه حتى أحضر لك الرخصة الخاصة بك من القسم، وحينما ذهبوا إلى القسم ولم يجدوه محمد عاكف، قالوا له: أين محمد عاكف؟

قال: هو الذي قال لي أمام الكونستبل اذهب معه إلى القسم حتى أحضر لك الرخصة.

طبعا، ذهبت إلى السجن الحربي فيما بعد، ووجدته هناك. وهو من المجاهدين القلائل الذين أعتز بأخوتهم حتى اليوم.

في بيت السفير

وفي مرة أخرى، وأنا مطارد أيضا لا أستطيع دخول أي منزل، ولا الذهاب لأي مكان، قابلت ابن السفير السوري - وكان من عائلة الأتاسي، وكان معي في معهد التربية ويعرفني جيدا - فقال لي: إنني أعرف ما حدث، ونحن سنسافر لأسوان، ثم أعطاني مفتاح الفيلا، ومفتاح السيارة، وظللت لمدة عشرة أيام وأنا أقيم في فيلا السفير، وأتنقل بسيارة السفير.

في تلك الأثناء، كان بيني وبين الأستاذ عمر التلمساني والدكتور كمال خليفة؛ مراسلة، حيث لم يكونا معتقلين. وكان حلقة الوصل بيننا شابٌ ظريفٌ جدا من عائلة الهضيبي، فوجئت به في يوم من الأيام يحضر ويقول لي: الأستاذ عمر والدكتور كمال خليفة يريدانك لأمر ضروري، وحددت الموعد والمكان وقابلتهما، فقالا لي: إن الملك سعود سيحضر، ويريد حل الموضوع بصورة ودية، ولكن عبد الناصر مصرٌّ على أن تقوم بتسليم نفسك أنت ويوسف طلعت، إضافة إلى هؤلاء المعتقلين، فقلت لهم: ما تريدونه سأفعله بدون مناقشة، فقالا لي: لا بد أن تقوم بتسليم نفسك.

مظاهرات آذار/ مارس

بعد حل الجماعة، واعتقال قادة الإخوان، عمد عبد الناصر ورفاقه لتضييق الخناق على محمد نجيب؛ مما دفعه للتنحي.

وانقسم الجيش إلى فرقتين: فريق يؤيد محمد نجيب، وتزعم هذا الفريق ضباطا من سلاح المدرعات، وفريق آخر يؤيد جمال عبد الناصر من سلاحي المدفعية والمشاة.

وكاد هذا النزاع أن يؤدي إلى حرب أهلية تقتل فيها قوات مصر المسلحة، ولكن جمال عبد الناصر استجاب للفريق المؤيد لمحمد نجيب؛ نظرا لاندلاع المظاهرات الشعبية من أسوان للإسكندرية تطالب بعودة نجيب، وتبين لعبد الناصر أن نجيب يتمتع بشعبية كبيرة في مصر والسودان، حيث قامت مظاهرات مماثلة في السودان الشقيق تطالب أيضا بعودة نجيب، فأدى ذلك لاندلاع المظاهرات، سواء في الجيش أو من الشعب، للمطالبة بعودة نجيب للحكم، والإفراج عن الإخوان المسلمين.

عاد محمد نجيب للحكم، وأفرج عن الإخوان، وزار عبد الناصر وصلاح سالم المرشد العام في منزله بالمنيل، وكان ذلك في آذار/ مارس 1954م.

حوار مع المرشد

تمثل الهيئة التأسيسية مجلس الشورى للإخوان المسلمين، وكان الأستاذ البنا يقوم بتعيين أعضائها حسب مصلحة الإخوان، وكان رأيها استشاريا غير ملزم، حتى عام 1947م، حينما تغير القانون الأساسي للإخوان المسلمين، وأصبح رأي الهيئة التأسيسية ملزما للمرشد العام.

وكان اجتماعها دوريا كل سنتين، أو حسب طلب الأستاذ المرشد، كما كان هناك لجنة تسمى لجنة العضوية، مكونة من خمسة أفراد، تقوم بفحص المرشحين لعضوية الهيئة، أو تقوم بالتحقيق مع أعضاء الهيئة إذا لزم الأمر.

وفي كانون الثاني/ يناير 1954، وأثناء وجودنا في السجن، فكرنا كيف نطور الجهاز الإداري للإخوان، وعلى رأسه الهيئة التأسيسية، وطالبنا الأستاذ الهضيبي بوجوب حل الهيئة التأسيسية والدعوة إلى هيئة تأسيسية جديدة. وحينما خرجنا، أحببت أن أذكر الأستاذ الهضيبي بما اتفقنا عليه ونحن في السجن الحربي، فقال لي: لا. ليس هذا هو الأسلوب الأمثل. الأسلوب الأمثل أن تقوم الهيئة التأسيسية نفسها بحل نفسها، وتدعو هي نفسها لانتخابات جديدة. وبهذا يتضح عمق فكر الأستاذ الهضيبي، ورسوخ معالم العمل الصحيح في مؤسسات الإخوان المسلمين، والمحافظة على قانونيات الجماعة.

وتمت انتخابات بالفعل على مستوى الجمهورية، ولكن للأسف لم تجتمع الهيئة التأسيسية الجديدة، حيث ألقي القبض على أعضائها. وبعد عودة جماعة الإخوان في السبعينيات، واستكمال هيئاتها الإدارية وتنظيماتها، وضعت لائحة مؤقتة تمت على أساسها انتخابات المكاتب الإدارية ومجالس الشورى في الأقاليم، ومجلس الشورى العام الذي قام بانتخاب أعضاء مكتب الإرشاد العام.

واعتقد الجميع أن الحياة النيابية ستعود، وفي نفس اليوم بدأ عبد الناصر بتنفيذ خطته، وفوجئت القاهرة بتوقف جميع وسائل النقل فيها في الساعة الواحدة ظهرا، ما عدا الترام، بعد أن استطاع أن يستميل إليه صاوي أحمد صاوي، رئيس اتحاد نقابات عمال النقل، ليعلن إضرابا شاملا لمطالب خاصة، ثم بدأت الإذاعة تذيع إضراب العمال؛ بسبب قرارات عودة الحياة النيابية للبلاد، ورغبتهم في الإبقاء على مجلس الثورة.

وخرجت جريدتا الأهرام والأخبار تؤيدان هذا الاتجاه، وتطالبان ببقاء مجلس الثورة، بينما انفردت جريدة المصري بالوقوف ضد ذلك الاتجاه، محاولة الكشف عن المؤامرة التي تدبر للقضاء على الحياة النيابية الدستورية الطبيعية للبلاد، وبدأت المظاهرات تشتد - وهي المظاهرات التي كان يدبرها البوليس الحربي - وكانت تطالب بعدم عودة الحياة النيابية.

كنت مشغولا بأعمال النظام الخاص والتدريبات، سواء في الصحراء أو في غيرها، وكنا تحت عين الحكومة، غير أنني لم أكن مطمئنا يوما لهؤلاء العسكر.

نظام الفصائل ومساعدة الدول العربية في تحرير أرضها

كان الإخوان المسلمون منذ عهد الإمام البنا قبلة العالم الإسلامي، وملتقى زعمائه، وقادة التحرير فيه. وفي الوقت الذي كان العالم الإسلامي يرزح كله تقريبا تحت نير الاستعمار (إنجليزي أو فرنسي)، كان زعماء التحرير في تلك البلاد لا يجدون ملجأ إلا عند الإخوان المسلمين. فكثيرا ما امتلأ المركز العام للإخوان بأمثال سوكارنو، والحبيب بورقيبة، وعلال الفاسي، والإبراهيمي، ومحيي الدين القليبي، وغيرهم كثير وكان الإخوان من جانبهم؛ يقدمون كل ما يستطيعون من مساعدة لهم. وكان النظام الخاص في الإخوان يقوم بدور مهم في مد يد العون للأشقاء الذين يسعون للتحرر، وقد أعددت نظاما للفصائل تمت الموافقة عليه.

 

اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (12)

اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (11)

التعليقات (0)