قبل أكثر من أسبوع، كتب أبو يعرب المرزوقي، الأكاديمي التونسي، المشتغل بالكتابات الفلسفية، في مدونته الموسومة بـ"الوعي العربي بقضايا الأمة"، مقالة بعنوان "المقاومة
الفلسطينية: مأزقها وخيارها الأكثر رشدا".
والحقّ أن بعضا من مقدّمات المقالة ممّا أتفق معه، وسبق لي الكتابة فيه، كما حاول الكثيرون الكتابة فيه منذ الثورات العربية، والمقصود من ذلك تحديدا، الترابط العضوي ما بين التحرر من الاستبداد، وتحرير البلاد من الاستعمار المقنّع، فالمشكلة في البلاد العربية، لم تكن مشكلة استبداد فحسب، بل ظلّت المشكلة الاستعمارية قائمة، وهذه المشكلة غير منفكّة عن الاستعمار الصهيوني الغربي لفلسطين، بل من المؤكّد أن الاستعمار الصهيوني لفلسطين، من الأسباب الأساسية في تعثّر الثورات العربية. وما الحالة المتردّية التي نراها في مصر الآن عنا ببعيد، ولا المأساة الدامية المفتوحة في سوريا التي أُريد لها الاستمرار حتى اللحظة!
بيد أنّه، وكما هو شأن أكثر من يكتب في هذه الموضوعات الكبرى، ممن يقترحون حلولا استثنائية للأزمات، يكتفون بالتهويمات الإنشائية، أو بالمقدّمات التي تحوي كثيرا من الخلط، دون أن يجيبوا على السؤال المطلوب منهم، وهو سؤال "كيف". فمقالة الدكتور التي بلغت 885 كلمة، خصّص منها فقرة واحدة لـ"الخيار الأكثر رشدا"، من 46 كلمة، وبهذا لم نستفد شيئا في الحقيقة، والحلّ لدى الدكتور باختصار هو "الحلف بين
الربيع العربي وفلسطين".
المشكلة أنّ الدكتور لم يقل لنا كيف يكون هذا الحلف. هذه المطالبة، ليست استنكارية أو رفضا للفكرة، فلقد كتبتُ فيها مرّات عديدة. وجزء أساسيّ من انشغالي بالكتابة هو في القضايا العربية، ولا سيما المصرية والسورية، بالإضافة لنقد السلوك
الإيراني ببعديه الجوهري والعرضي، وكذا في نقد حلفاء "
إسرائيل" الجدد في بعض العواصم العربية، ولكننا بالتأكيد نحتاج من "الفيلسوف" ما هو أكثر مما يحسنه كلّ أحد، من الإنشائيات، وإطلاق الكلام على عواهنه!
صحيح أن الدكتور كتب بعد ذلك بيومين مقالة وسمها بـ"مقاومة فلسطين.. خيارها الوحيد الحلف مع الربيع العربي"، إلا أنّه بجهده هذا - ومع الأسف - لم يقدّم جديدا يخدم دعواه العريضة، وإنّما كثّف من هجائه لإيران، وبالتالي لمن يتحالف معها في سياق مقاومة "إسرائيل"، مساويا بين "إسرائيل" وإيران، مع تأكيد منه على أن الأخيرة أخطر لجملة أسباب ساقها، ضامّا إلى مقدّماته المزيد من الخلط المستند إلى قناعته الرافضة للمقاومة المسلحة من بعد 11 أيلول/ سبتمبر، وبالتالي فالسلاح الذي تقدّمه إيران للمقاومة الفلسطينية - بحسب الفيلسوف - يخدم "إسرائيل" في النتيجة؛ لأنه يعينها على نعت الفلسطينيين بالإرهاب!
وأمّا توضيحه للخيار الثالث، فلم يزد على قوله إنه حلّ يتألّف من مبدأين: الأول وحدة الشعب الفلسطيني والتخلّي عن أمراء الحرب، والثاني اختيار صفّ الربيع ومن يؤيّده في الإقليم. والدكتور مرّة أخرى لم يقل لنا "كيف" نحقّق المبدأ الأول والثاني، مع أنّه ينبغي عليه أن يدرك أنّه لا خلاف لدي المقاومة الفلسطينية على هذين المبدئين، على الأقل لدى حركة حماس.
أقصى ما ذكره الدكتور، أن ينتهج الفلسطينيون المقاومة السلمية، قائلا إنّ الدكتور مصطفى البرغوثي هو مستقبل المقاومة الذكية، مُجسّدا الفكرة في شخص رجل، وهذا التجسيد ناجم عن قصور في المتابعة لدى صاحب "الوعي العربي بقضايا الأمّة"، كما سنبين على عجل لاحقا، فإذا كفّت المقاومة الفلسطينية عن استخدام السلاح، كما يرى الدكتور، فهي لن تحتاج لإيران. وبصرف النظر عن كون الفكرة إلى هذا الحدّ لا تراعي كثيرا من الوقائع القائمة التي تحتاج تفكيكا؛ لا يُنجز بمجرد أن تلقي المقاومة الفلسطينية سلاحها العنفي، فإنّ الدكتور لا يخبرنا نحن معاشر الفلسطينيين، ما هي واجبات الربيع العربي إزاءنا!
ولأنّ مقدمات الدكتور الخاطئة كثيرة، فسوف نجد أنفسنا، مضطرين كثيرا للقول "بصرف النظر"، كي نتجاوز عن تصورات الدكتور الخاطئة أو أحكامه الأخلاقية الظالمة، من ذلك مثلا؛ علينا أن نعرّف الدكتور بأن اتفاقية أوسلو، وبخلاف ما يظنّ، لم تحدّ من قضم الأرض، ولم تؤدّ إلى إرجاع "إسرائيل" إلى حجمها الطبيعي، وهنا ينبغي ألا يفوتنا أن نضع تحت مقولته "وإرجاع إسرائيل لحجمها الطبيعي"، ألف خطّ، إذ إنّه ورغم قوله إن "إسرائيل" كائن غير طبيعي في بلادنا، وبالتالي إمكانية إزالته قائمة، وذلك في سياق مقارنتها مع خطر إيران "الأكبر"، فإنّه يعود للقول إنّ لـ"إسرائيل" حجما طبيعيّا!
حسنا، ما ينبغي على الدكتور أن يعرفه أنّ أوسلو (التي يقول إنّ له عليه ملاحظات لم يبينها) هو الذي ضاعف من حجم الاستيطان، وأن أحداث 11 سبتمبر لم تزد على كونها أعطت "إسرائيل" دفعة، لكن "إسرائيل" تغطّت أساسا بأوسلو لا بالأعمال الفلسطينية التي يسهل على "إسرائيل" وصفها بالإرهاب، وحينما جاءت أحداث 11 سبتمبر، كان يفترض أن تكون أوسلو قد انتهت وأفضت إلى المرحلة الدائمة.
ما يجهله الفيلسوف، هو حجم الاستيطان الذي تضاعف في فترة أوسلو عما كان قبل أوسلو، وحتى كل الإجراءات الاستعمارية التي ابتكرها الاحتلال لاحتواء انتفاضة الأقصى ولمنع نمط العمليات التي أبدعها الفلسطينيون في هذه الانتفاضة.. هو مبني على أوسلو، وعلى وجود السلطة الفلسطينية، وعلى تقسيم أراضي الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق (أ، ب،ج) وعلى إرجاء القدس إلى مفاوضات الوضع النهائي. وعلى أيّ حال ينبغي أن نُعرّف الفيلسوف أيضا بأنّ الضفة الغربية لا مقاومة مسلحة فيها منذ 13 سنة تقريبا، ومع ذلك فهي أرض القضم والتهويد!
لا يدرك الفيلسوف الكارثة التي حلّت بالفلسطينيين جراء هذه الاتفاقية وتطبيقاتها على الأرض، دون أن ننفي فوائد أخرى تحقّقت منها، لكن النقاش في النتائج التي تشكّل جسدها الأساس، إلا أن الدكتور يثق بإمكانية أوسلو تلك (التي تنفيها الوقائع) لأنه يثق بأخلاق من عقدوها، أي قيادات الثورة الكبار، لكنّه يسهل عليه أن يساوي بين الثورة المضادة والمقاومة الفلسطينية، ويشكّك في عقل قادتها وفي بصيرتهم، وفي أنهم خونة بسبب تحالفهم مع إيران بحسب فهمه، وأنهم أمراء حرب، ولا يختلفون عن الأنظمة العربية الرسمية، وأن حركات المقاومة تتاجر بالقضية، وورقة إيرانية، وأن المقاومة في غزة تشبه المعارضات الجهادية استبدادا وفسادا في شبه دولة.. الخ!
ليس علينا أن نرد ّكلّ هذه الاتهامات، لكن يكفي لدحض جملتها، هو تلك المساواة بين "عربي من الثورة المضادة يتحالف مع إسرائيل بدعوى الحرب على إيران، وبين عربي من المقاومة الفلسطينية يتحالف مع ما يسمى بالممانعين عملاء إيران"، إذ يغيب عن هذه المساواة، أنّه ومهما اختلفنا حول العلاقة مع إيران، وفي تقدير ظرف المقاومة الفلسطينية وتعقيداته، ومهما اختلفنا في صحة انتهاج المقاومة المسلحة في هذا الظرف، فإنّه ليس علينا أن نساوي بين الظالم المجرم الخالص الذي ليست لديه قضيه عادلة، وهم عرب الثورات المضادة حلفاء "إسرائيل"، وبين من يدافع عن قضية عادلة، حتى لو أخطأ الطريق وإدارة التحالفات.. كيف يغيب هذا الفرق الجوهري عن عقل "فيلسوف"؟!
وعلينا أن نعرّف الدكتور، بأنّ المقاومة الفلسطينية لا تحصر القوّة في القوّة المادية، وهي تدرك أكثر منه الفرق الهائل في القوّة بين قوّة الاستعمار وقوّة الشعوب التي ثارت عليه، وأنّه لا بدّ من الجمع بين القوّة المادية والروحية، والعنيفة واللطيفة، كما يقول، لكن المشكلة أنّ الدكتور لا يعرف أنّ المقاومة تعرف، دون أن ننكر أنّها وقعت في أخطاء إستراتيجية، جعلتها في هذا المأزق الراهن، بما في ذلك انحصار مقاومتها بشكلها الحالي في قطاع غزّة، لكن أخطاءها تلك، ورغم مخاطرها التي أُقرّ بها، وأخشى منها على مستقبلها القريب لا المتوسط والبعيد فحسب، لا تجعلها بالسوء الذي يرميها به الفيلسوف المحترم!
لم يكن الدكتور قادرا على النزول إلى الأرض، أي إلى تفكيك الواقع صعودا إلى المبدأ الذي يطالب به، وكان في معرض تجنيه على المقاومة الفلسطينية غافلا عن الثمن الباهظ الذي دفعه الجسد الأساس للمقاومة الفلسطينية حينما انحاز للثورات العربية، والدكتور إذ لم يزل يطالبها بما يكبّدها أضعاف هذا الثمن لا يخبرنا بواجب "الربيع العربي" إزاءها، ورغم ذلك، وغيره من تهويمات لا علاقة لها بواقع المقاومة أو أفكارها التي تحكم علاقتها بإيران، فإنّ ثمة أفكارا أخرى تستحق النقاش، حول المقاومة وأدواتها وأخطائها، وحول المقارنة بين إيران و"إسرائيل"، إلا أن دحض أخطائه أخذ مساحة كبيرة، لا لعمق الأفكار ووجاهتها وقوتها، بل لكثرة أخطائها، ويظل علينا أن نناقش ما يستحق النقّاش، وأن نقترح على الدكتور الإجابة على سؤال "كيف"، الذي أهمله رغم دعاوى عناوينه العريضة!
لعلنا نفعل ذلك في مرّات قادمة كما فعلناه من قبل!