أوهمتنا الطبقة السياسية
التونسية منذ
الاستقلال؛ بأن فكّ الارتباط بفرنسا المستعمر القديم مرادف لموتنا، أو هو السبب الرئيسي لفنائنا بين الأمم والشعوب. وما زلنا بعد الثورة نخوض في هذا النقاش، ونسمعهم يقولون إن
فرنسا تمسك السماء أن تقع فوق رؤوسنا. وقد رأينا جميع الطبقة السياسية الجديدة، والتي يفترض أن الثورة قد حررت قرارها، تحج إلى فرنسا وتنتظر الأوامر، بل يزايد بعضها على بعض في خدمة فرنسا وإرضاء نزواتها في تونسز. وهو ما يذكرنا بأمر طريف في بشاعته، وإن لم يكن له علاقة مباشرة بأمور الاقتصاد والسياسة، وهو أنه في زمن ابن علي، كان فريديريك ميتران، وهو إعلامي ومثقف فرنسي من ذوي الميول المثلية، يأتي إلى تونس ويقيم في بيت له بالحمامات (الضاحية السياحية)، وكان بعض طبقة من المثقفين الفرانكونيين ممن يرتزق من منظمة الفرانكفونية؛ يأتيه بالغلمان حيث هو، يتعد له الجلسة؛ منتظرا الشكر. وكان الشكر يأتي استدامة لحكم ابن علي.
الطبقة السياسية الآن ورثت سلوك مثقفي السيد فريدريك، وإن لم تكن سلعتهم غلمانا بل كل اقتصاد تونس وسيادتها على ثرواتها. والسؤال الذي سيظل بدون إجابة، وإن كان من واجبنا أن نطرحه: لماذا كل هذا التذلل والخنوع لإرادة الدولة الفرنسية؟ ما الذي يربك التونسيين جميعهم أمام هيمنة فرنسا على مقدرات البلد في زمن معولم ومفتوح؟ هل هي ملفات سرية تمسكها عليهم فرنسا؟ أو هو فقر في تخيل مرحلة الانعتاق وصعوباتها، والخوف من تحمل كلفتها باعتبارها معركة استقلال؟
فرنسا ليست أمنا
يمكننا أن نفتخر بأنه حتى القرن الثامن عشر؛ كان القمح التونسي هو مصدر الغذاء الأول لفرنسا، وكانت تونس تنتج حاجتها وما يفيض عنها، فتصدّر، حتى أن أحد موانئها كان يسمى "بورتو فارينا"، أي ميناء القمح، وكانت البوارج الإيطالية (جنوة) تحمّل القمح إلى مرسيليا. لدينا علم بالانقلاب التاريخي الذي جعل تونس تستورد غذاءها، وكان لقناصل أوروبا الذراع الطويلة التي أفقرت البلد؛ معتمدة على الخيانات الداخلية وسوء الإدارة المحلية، فضلا عن تراجع المقدرات التقنية مقارنة بالتقدم الصناعي في دول الغرب، ومنها فرنسا. ولكن مخلفات تلك المرحلة ازدادت سوءا بالاستعمار المباشر واستنزاف الثروات طيلة 75 سنة من وجود فرنسا القمعي الإرهابي في تونس. لقدخاض تونسيون كثر معركة التحرر، ودفعوا ضريبة الدم المقدسة، ولكن الدولة الجديدة لم تخرج من تحت جناح فرنسا، وكانت لدى النخبة الجديدة مبررات مهولة لإقناع التونسيين بضرورة الارتباط بفرنسا، ومن حججهم أن الاستقلال عنها اقتصاديا يعني موتنا.
لم نمت ولم نحيا. ففرنسا تقسط علينا الأوكسجين، رغم ذلك نقول إنها ليست أمنا، ولا حتى امرأة أبينا. ونضيف أننا قد رشدنا أكثر ما رشدت نخبتنا، ويمكننا أن نجد البدائل، غير أنه علينا - بعد القول بالرشد السياسي - أن ننظف الساحة السياسية من عملاء فرنسا الذين يرونها سبب البقاء.
توجد وضعية ملائمة للتحرر النهائي
العولمة تسمح بالتحرر. هذه بوابة مفتوحة منذ الثورة، تبينت لنا رغبات الدول الكبرى والمتوسطة والقوى الاقتصادية الجديدة في التعامل مع الاقتصاد التونسي. كانت أوضح الرغبات هي رغبة ألمانيا والصين وتركيا والهند، وقد أفلحت بعض مؤسساتها في التسلل إلى تونس (رغم الرقابة الفرنسية) وفرض سلعها، عبر عمليات تبادل لا تتم لصالح الميزان التجاري التونسي، ولكنه تبادل بشروط أفضل في كل الحالات.
وكان يمكن للنخبة السياسية أن تستغل هذا التنافس على تونس لتنوع مصادر الاقتصاد، بيعا وشراء. إذ لدينا ما نبيع، ولسنا فقط شعبا مستهلكا. ولكن كلما تبينت لنا فجوة للخروج، وجدنا من بيننا من يعيدنا إلى الارتباط القديم مع فرنسا.
لقد حدثت معركة كبيرة - مثلا - منذ حكومة الترويكا في توزيع توكيلات السيارات، وفرضت كوتا للسيارات الآسيوية (الصين والهند)، ولكن قدرة اللوبي المناصر لفرنسا، والذي لا أشك شخصيا في أنه يتمول منها، منع توسيع الكوتا لكي لا تأخذ من كوتا السيارات الفرنسية.
ويمكننا أن نعدد الأمثلة، وآخرها الضريبة الإضافية التي فرضت على الواردات التركية لتونس (بحجة انخرام الميزان التجاري لصالح تركيا)، فكان أن انعكس ذلك على أثمان مواد البناء (الحديد والإسمنت) وعلى المواد الفلاحية (الكيماويات والمخصبات) وعلى معاصر الزيت. لقد منعت سلع تركية من الدخول، ولكن تبين أن بديلها سلعة فرنسية بأضعاف ثمنها، والفلاحون خاصة يعرفون ذلك ويتألمون.
لقد طرد الرئيس التركي تقريبا من تونس، بينما تغسل الشوارع اليوم للرئيس الفرنسي، في حين لم يدع أحد أنجيلا مركل إلى تونس، وهي حاكمة أقوى قوة اقتصادية أوروبية. كما تروج مواقع وصحف، وللصدفة ناطقة بالفرنسية فقط، لرداءة السيارة الهندية والصينية والآسيوية عامةـ بما يجعل التونسي يهرب إلى الفرنسية وحدها. ولم ننس أبدا تصريح السفير الفرنسي المقيم بيننا، والذي أكد فيه تمويل فرنسا للصحافة الناطقة بالفرنسية في تونس.
إن فرنسا تدخل مسام بدننا، وبواسطة بعضنا، بما يؤبد التبعية، والأدهى أن الطبقة السياسية تساهم في ذلك، وترتجف أمام أي صحفي محلي يظهر في صورة مع السفير الفرنسي.
توجد نوافذ، لكن السياسيين يغلقونها. وكيف لا يفعلون، وهم قد سمعوا فرنسا تعلن أنها أمرت بالاغتيال السياسي في تونس، ورأوها تمنح نوبل للنقابة التي كسرت ظهر الثورة.
الخوف يقتلهم، والبلد يفقر بخوفهم، والاقتصاد يخسر كل فرص التنافس عليه من قوى اقتصادية ذات وزن، وذات إضافة تكنولوجية نحن في أشد الحاجة إليها.
ما هو الحل للخروج من وضعية الذل؟
ليس لدينا قدرة على تصدير طبقتنا السياسية إلى فرنسا ضمن صادرتنا. لا يمكننا حتى الآن أن نتحرر من عملاء فرنسا الفعليين، والخائفين من العملاء الفعليين. والأمر ليس شهوة، ولكنه قرار سيادي لم يتصد له حتى اللحظة أي سياسي، باستثناء الدكتور المنصف المرزوقي الذي أسس عليه حملته الانتخابية،ن والتي لم تنته بفوزه (سكت الرجل لاحقا عن الموضوع وخرج من خطابه السياسي).
مسألة الاستقلال والسيادة ليست محل إجماع لدى الطبقة السياسية التونسية، وليس لديها ما يكفي من الشجاعة لتبدأ حملة تنويع المصادر (بدأ راشد الغنوشي ذلك من موقع غير رسمي)، وكلما تحرك شرقا أو غربا ظهرت فرنسا لتلقي أوامر اقتصادية، أو تولى الأمر صحافيون يكتبون بتمويل فرنسي، ليصبح احتمال الاستقلال احتمالا خطرا ومخيفا، كما لو أنه إعلان موتنا المسبق.
السماء لم تقع على رؤوسنا، لكن السياسيين وقعوا، وهم الآن في حضيض التقدير الشعبي، خاصة نحن نراهم يغسلون الطرقات التي سيسير عليها الرئيس الفرنسي، وهو ما ذكرنا بعمل بن علي الذي استقبل يوما جاك شيراك، فمرت عربات العطور في الشارع الرئيسي وعطرته.
ما كان لفرنسا أن تهمين لولا أنها أوجدت لها يدا محلية، وهذه اليد المحلية غير قابلة للقطع. فكل مرحلة شهدت تجددها، وكل ثورة يعود خطاب السيادة، فينزل السياسيون إلى الحضيض. إن فرنسا عندهم أمنا وأبونا، ولولا أن بعضهم ملحد لقال إن فرنسا ربنا الذي نصلي له. سيصلون له طويلا، فالسيادة إيمان لا يعتنقه الأذلاء.