حين يصيح الجنرالات وهم يشتكون من المجهول، فإنهم غالبا يواجهون مشكلة تستعصي على الحل. وهذا كان حال عبد الفتاح السيسي في خطابه الشهير قبل أيام. فقد تخلى عن خطاباته العاطفية، ليهدد ويتوعد من أسماهم الذين يهددون أمن مصر، وهو الوصف الذي تطلقه الأجهزة الأمنية والعسكرية على أي مدني تسول له نفسه أن يقترب من السلطة أو يخالفها الرأي والتوجه. وسواء أكانت لهجة الخطاب موجهة للمعارضة المدنية أم لأخرى عسكرية من داخل النظام، فإن النتيجة واحدة، وهي أن الجنرال تجاوز مرحلة الغضب إلى القلق والعصبية، الأمر الذي يستدعي قراءة جديدة للمشهد في ضوء التطورات المتسارعة التي شهدتها الأيام الماضية.
أهم المتغيرات التي حدثت في المشهد المصري؛ هو خروج المعارضة بكافة أطيافها من مساحة رد الفعل إلى الفعل والمبادرة. والإنصاف يقتضي الإشادة بهذه الخطوات التي بدأت بالمحاولة الدؤوبة لخالد علي لجمع التوكيلات، وصولا إلى إزالة ورقة التوت عن النظام في اللحظة الأخيرة بانسحابه الشجاع، مما أدى للاستدعاء المهين لسياسي مغمور؛ ليؤنس اسم السيسي في ورقة الاقتراع. وبين هذا وذاك، كان تكوين جبهة معارضة جديدة من رئيس الأركان السابق سامي عنان وأستاذ جامعي شهير، هو الدكتور حازم حسني، مع القاضي المرموق هشام جنينة، وعدم تنازلهم، كما فعل المرشح السابق الفريق أحمد شفيق، رغم سجن عنان ومحاولة اغتيال جنينة، بالإضافة لطرح شخصيات مقربة من قيادة الإخوان حلولا مرنة؛ وصلت لدرجة اقتراح الحصول على تنازل من الرئيس محمد مرسي للأمة، كما صرح يوسف ندا، رغم تحفظي على توقيت الطرح وصياغة بقية المطالب.
القوى المعارضة وصلت لدرجة من النضج في الحركة يمكن أن يكون المسمار الأول في نعش نظام السيسي
لقياس مدى خوف النظام وقلقه من مثل هذه الخطوات، التي قد تبدو ضعيفة، يمكن رصد الاتهامات والبلاغات التي انطلقت فور
صدور بيان المقاطعة؛ من عدد من الشخصيات العامة والمرشحين السابقين للرئاسة، مثل الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح والنائب السابق محمد أنور السادات. وهو إن دل على شيء، فإنه يدل على انزعاج النظام الشديد من أن تستثمر أية قوى أخرى داخل النظام هذا الغطاء السياسي لتحقيق أي اختراق في جدار النظام المصمت حاليا. أي أن القوى المعارضة وصلت لدرجة من النضج في الحركة يمكن أن يكون المسمار الأول في نعش نظام السيسي. ولا ننسى أن السيسي استمد، ولا يزال يستمد، قوته من ضعف المعارضة وتشرذمها على مستوى الرؤية والحركة.
وفقا لهذه المعطيات، يمكن القول إن السيناريو الأكثر تفاؤلا للحالة الراهنة هو أن يترك السيسي منصبه طوعا أو كرها في الشهور المقبلة، مكتفيا بولاية رئاسية واحدة. حينها سيتم تنفيس أكبر قدر من الاحتقان الشعبي والسياسي وحتى الرسمي. هذا الأمر يمكن أن يتم بضغوط داخلية أو خارجية لحسابات لا نعلمها؛ بسبب حجب كثير من المعلومات عن الرأي العام. والعائق الرئيسي أمام هذا السيناريو للأسف هو المعارضة نفسها. فرغم اتخاذها كثيرا من الخطوات الإيجابية سالفة الذكر، إلا أن عدم الاتفاق على خريطة نقل سلمي للسلطة؛ يفتح المجال لمزايدة النظام على الجميع بأنه بديل للفوضى، خاصة في ظل التطورات غير المسبوقة التي تشهدها مصر والمنطقة خلال السنوات الماضية. لقد كانت الانتخابات الرئاسية فرصة لحل هذه الإشكالية لكن النظام أفشلها. وبالتالي، فإن الخطوة الهامة التالية للمعارضة هي الاتفاق على خطوات دستورية واضحة لنقل السلطة سلميا في حال خلو هذا المنصب. ونذكّر بأن السيسي نفسه لم يكن بمقدوره أن يقوم بانقلاب 3 تموز/ يوليو من دون غطاء سياسي؛ متمثل في خطة وضعتها المعارضة حينئذ لنقل السلطة من انتخابات رئاسية مبكرة ومصالحة مجتمعية وتعديل للدستور.. إلخ، بعض النظر عن كيفية تطبيق هذه البنود لاحقا.
جميعهم رحلوا عن السلطة بطرق مختلفة، غير متوقعة تماما. وغالبا سيرحل السيسي بطريقة غير متوقعة مثلهم
أما السيناريو الآخر، فهو أن
يتمسك السيسي بالسلطة - كما قال - حتى آخر نفس. وبالمناسبة، فقد قالها مبارك قبل ثورة 25 يناير بفترة، حين صرح بأنه باقٍ في السلطة طالما فيه عرق ينبض. لكن ريح السياسية تأتي كثيرا بما لا تشتهي سفن الحكام، سواء أكانوا في مثل وضع مبارك، ومن قبله السادات ومن بعده مرسي والسيسي. وجميعهم رحلوا عن السلطة بطرق مختلفة، غير متوقعة تماما. وغالبا سيرحل السيسي بطريقة غير متوقعة مثلهم، لكن المشكلة هنا في التكلفة المادية والبشرية لهذا الرحيل. فكلنا يعلم أن نظام مبارك فتح السجون، وانسحبت الشرطة في محاولة لإحداث فوضى عارمة في البلاد؛ يتوه فيها الشعب الثائر، ويبقى فيها النظام قائما. لكن ما حدث هو العكس: سكينة هائلة وتدبير الناس لأمورهم بكل رقي وتحضر. وبالتالي، فالتخوف هو من خطط نظام السيسي في إحداث فوضى إذا أطبق الحصار عليه تماما. وعندي يقين بأن الشعب المصري قادر على امتصاص هذه المحاولة، كما أفشل محاولة نظام مبارك من قبل. فأي مواجهة مباشرة بين الشعب والنظام يكسب فيها الشعب دائما.