فى 17 تموز/ يوليو2017، قدم قائد الجيش الفرنسي (الجنرال دوفيليه) استقالته من منصبه، قُبلت الاستقالة فورا وأصدر رئيس الجمهورية (ماكرون) قرارا بتعيين مستشاره للشؤون
العسكرية (الجنرال لوكوانتر) مكانه. الاستقالة كانت مسبوقة بمواجهة تمت بين الرئيس والجنرال حسمها الرئيس بمقولته الشهيرة "إذا حصل خلاف بين قائد الجيش ورئيس الجمهورية فإن قائد الجيش يتغير". نحن أمام مشهد هام يعكس تصورا صلبا وقويا وواضح عن فكرة "الجمهورية"، وفي القلب منها فكرة "الدولة".
يقولون إن إدارة الدولة تقوم على مبادئ وأسس تهدف إلى توظيف استراتيجيات سياسية واقتصادية واجتماعية وعسكرية؛ لخدمة مصالحها ومبادئها. وقد استقرت غالبية دول العالم على أن السياسات الدفاعية والعسكرية واستراتيجيتها هي أداة للسياسة في نهاية الأمر، والتكامل بين الاستراتيجيات في ظل نظام قيادة وطني هو الضمان الوحيد لعدم تمدد استراتيجية على أخرى (وهو ما رأينا نموذجه المثالي في الموقف الفرنسي حين اختلف قائد الجيش مع رئيس الجمهورية حول ميزانية الجيش). بهذا المعنى، فإن المستوى السياسي في "الدولة الديمقراطية" يأتي فوق المستوى العسكري، حيث تتركز مهمة المؤسسة العسكرية في حماية البلاد وضمان أمنها، بينما تدير السلطة السياسية المنتخبة شؤون البلاد بوصفها الجهة المسؤولة مباشرة أمام الشعب. وهكذا استقرت في المفهوم الديمقراطي لفكرة الدولة طبيعة العلاقة بين السلطة المدنية والسلطة العسكرية، لكن الأمر ليس كذلك في بلاد المشرق.
التجربة
المصرية (منذ 1952) في العلاقات العسكرية المدنية من التجارب الحاكمة، والملهمة أيضا لعموم المنطقة العربية، لم تكن الأولى، ولكن كانت الأبرز والأوضح (
العالم العربي شهد 123 انقلابا عسكريا، نجح منهم 39 انقلاب. أول انقلاب عسكري كان في سوريا 1946، والتي شهدت وحدها 24 انقلابا نجح منهم تسعة انقلابات).
كان الجيش المصري حاضرا بدرجات متفاوتة في الثورات المصرية منذ ثورة عرابي، والتي كان قائدها عسكريا، وحتى ثورة يناير 2011 التي لم يكن لها قائد. المستشار طارق البشرى يلفتنا إلى أن ثورة 1919 كانت ثورة شعبية، ولم يكن للجيش دور فيها. إذ كانت مصر لا تزال تحت الاحتلال البريطاني، وكان التكوين الاجتماعي للجيش لا يسمح بدور بارز له في هذه الثورة (كان معظم ضباط الجيش من أبناء الطبقة الحاكمة). لكن طبيعة الجيش كانت قد أخذت في التغير بعد السماح بدخول أبناء الطبقة الوسطى المصرية إلى الكلية الحربية منذ عام 1936، ما أدى إلى تغير مهم في التكوين الاجتماعي والتوجه الأيديولوجي والطابع المؤسسي للقوات المسلحة، والتي ازدادت كما ونوعا، فاتسعت الفجوة بين مؤسسات الدولة المدنية؛ وتلك الخاصة بالقوات المسلحة (ازداد تمايز واستقلال الجيش بشؤونه كلها)، ناهيك عن تغير الطبيعة الاجتماعية لضباطها المنتمين في أغلبهم إلى جيل الوسط (رتبة اليوزباشي والبكباشي)، وهو ما أدى أيضا إلى دور مختلف في ما يتعلق بدور الجيش في الحياة العامة والسياسة الداخلية.. ظل كل ذلك كذلك؛ حتى احتدمت الاحتدامات واشتعلت الاشتعالات، واقترب القرن العشرين والأفكار المهيمنة علية من منتصفه (1952) ليدخل الجيش في
السياسة، ولتتحقق نبوءة الجميع، والتي قالوها جميعا وكأنها من فم واحد: "إذا دخل الجيش في السياسة فلن يخرج منها".
على الرغم من تطور دور الجيش وقوته وهيمنته على وجه الحياة في البلاد بعد انقلاب 1952، فإن القوات المسلحة كانت قبل 1967 في أدنى مستوياتها المهنية وقدراتها القتالية، وقد ظهر ذلك مبكرا في حرب 1956 ثم في حرب اليمن، لكن الخوف من تكرار الحالة السورية جعل قيادة الجيش (بالنظر إلى ما هو مخابراتي وأمني) تؤول إلى أسوأ من عرفته العسكرية المصرية خلقيا ومهنيا، وكلنا يعرف الظرف التاريخي الذي رُقي فيه عبد الحكيم عامر من بكباشي إلى لواء، ليتسلم زمام الجيش، ويحدث ما يعرفه الجميع بعدها.
سيتجاوز الجيش المصري أثار أم الهزائم (يونيو 67) وينتقل إلى مرحلة جديدة (مرحلة الشهيد عبد المنعم رياض)، وهي المرحلة التي فتحت الباب واسعا لظهور جيل القادة العظام (احمد إسماعيل والشاذلي وبدوي والجمسي وأبو غزالة وعرابي وأبو شناف... الخ)، ويتحقق على يديهم النصر في حرب أكتوبر الذي أنقذ شرف الأمة، كما كان يقول الشهيد رياض مقولته العمدة (لا بد من حرب حتى وإن عادت سيناء كلها بالسياسة).
سيقف الجيش موقفا تاريخيا في أحداث كانون الثاني/ يناير 1977، وسيرفض الفريق الجمسى نزول الجيش إلى الشارع إلا بعد أمر كتابي من الرئيس الأسبق السادات، وكان دوره مقدرا ومصانا، لكن الرئيس أسرّها له ولم يبدها، وعزله، وليحدث بعد ذلك تطور مفاجئ، فيغيب عن قيادة الجيش في آذار/ مارس 1981م الفريق أحمد بدوي، وزير الدفاع الذي جاء بعد الجمسي، ومعه 11 لواء من أبرز جنرالات أكتوبر 1973م، وليدخل الجيش مرحلة جديدة؛ تم فيها على ما يبدو تفاهما واضحا مع السلطة السياسية، وسيكون نجم هذه المرحلة المشير أبو غزالة، وزير الدفاع في عهد السادات ومبارك حتى عام 1991، وليحدث بعدها داخل القوات المسلحة حدثا لم يحدث في تاريخها كله، وهو بقاء وزير الدفاع في منصبه 21 عاما (المشير طنطاوي), لا شك أن تلك العشرين عاما كان لها أثر هائل على أشياء كثيرة داخل هذا الكيان الكبير ولنترك التاريخ يقول كلمته فيها حين يحين الوقت المناسب، سيكون هاما هنا أن نذكر بأن الفراغ السياسي (في تلك العشرين عاما) وضعف الدولة الديمقراطية بمؤسساتها وأحزابها أثناء حكم مبارك جعل للجيش المصري وجود أكبر وأقوى في أجهزة الدولة وفى الحياة العامة كلها، والفراغ يستدعى ما يملؤه كما تقول النظرية.
تقول الدراسات إن أول من اهتم بدراسة الحالة المصرية (الجيش والسياسة)، والكتابة البحثية والتأصيلية عنها، كان كاتب اسمه (بيتا جول فاتيكيوتيس 1928-1997م) عمل أستاذا للعلوم السياسية في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن، وهو بالمناسبة مصري يهودي من أصل يوناني كما يبدو من اسمه، حيث كتب كتابا مشهورا لدى المهتمين بموضوع العلاقات العسكرية المدنية عام 1961م بعنوان "الجيش المصري في السياسة"، تحدث فيه عن دور الجيش في بناء مصر الحديثة. وطبعا تجربة محمد علي كانت شمس النهار في الموضوع. الكتاب الشهير للدكتور أنور عبد الملك (مصر مجتمع عسكري) والذي نشرته مكتبة الأسرة، صورة مشابهة لكتاب فاتيكيوتيس، لكنه كان أكثر وضوحا في اتجاه حيازة الجيش للسلطة (كلها) مع بعض المنوعات المدنية.
تقول الحكاية إن حماية الأمن والدفاع عن البشر والأرض كان من أكبر دوافع تحقيق التقدم في تاريخ الأمم والشعوب، وهذا صحيح. فالطرق السريعة، والسكك الحديدية، والعلوم البحرية، والصناعات الثقيلة الضرورية لصنع المدافع والطائرات والمدرعات والحصون، والبحث العلمى لإنتاج الذرة والصواريخ والطائرات والأقمار الصناعية التي تتحكم في الاتصالات العسكرية.. هي أكثر الإنجازات التي حققتها الأوطان خلال مسيرة تقدمها، وكانت بدرجة كبيرة منشأها تعزيز الدفاع عن هذه الأوطان.
إلى هنا والكلام جميل، لكننا سننتبه إلى وجه آخر من وجوه المسألة، ذلك أن معظم التجارب التي كانت الجيوش تحكم فيها مباشرة، ويتولى فيها الجنرالات مسؤوليات سياسية مباشرة انتهت إلى فشل كبير، فشل حتى في الدور الأصلي (حماية حدود الوطن كما في حزيران/ يونيو 1967)، ويذهبون إلى أن أخف صور الفشل كان تعطيل النمو السياسي للمجتمع.. فلا أحزاب ولا كوادر، ولا رأي عام ولا جماهير، ولا سياسة أصلا.. إن شئت قل تهميش الشخصية السياسية للمواطن العادي.
التجارب التي مرت بها أوروبا والغرب حتى تاريخ مقولة الرئيس الفرنسي ماكرون؛ لم تكن تجارب سهلة ولا قصيرة كانت تجارب كبرى تخللتها أحداث كبرى وأنتجت مفاهيم كبرى، وهو ما جعل تقدمهم واستقرار ورفاهية مجتمعاتهم جزءا لا ينفصل عن هذه التجارب، والتي كان أبرزها موقف الرئيس والجنرال في فرنسا.
دعونا نتذكر الخباز الماهر الذي لم يأخذ نصف الرغيف.