مجرد تصريح صغير من وزير خارجية
تركيا حول الاتفاق
المصري القبرصي بخصوص حقول
الغاز الموجودة في
البحر المتوسط؛ كان كفيلا بإصابة إعلام السيسي بهستيريا غير مسبوقة، مع أنه كان بمقدور الدولة المصرية أن تتعاطى مع الأمر بطريقة دبلوماسية، كما جرت العادة في حال حدوث مشكلات أو خروقات لأي اتفاقيات حدودية أو ما شابه.
فلماذا أطلق السيسي العنان لإعلامه للتعاطي مع الموضوع قبل أن تصدر الخارجية المصرية تصريحها؛ بعد أن مهد لها إعلام السيسي بحفلة دعائية مصورا الأمر على أن تركيا تعلن الحرب على مصر، وبالتالي على مصر أن تأخذ وضع الاستعداد للحرب المقبلة؟
بعد ساعات من الحرب الإعلامية، تحركت القطع البحرية المصرية في البحر المتوسط، مصحوبة بزفة إعلامية؛ متوعدة الأتراك بحرب لا هوادة فيها، ومبشرة الشعب المصري بأن الجيش المصري الذي اتهم بأنه جيش المكرونة؛ جاهز ومستعد لأي معارك حقيقية في البر والجو والبحر.
وهنا يطرح سؤال مهم حول حقيقة ما يجري بين مصر تركيا: وهو هل العلاقة مرشحة للتدهور إلى درجة النزاع المسلح؟
بالطبع يمكننا فهم غضب النظام المصري من الحكومة التركية المنتخبة، والتي قررت برئاسة الرئيس رجب طيب أردوغان ألا تعترف بالانقلاب، ومضت في قرارها غير عابئة بضغط من هنا وهناك، بل إن موقفها من دول حصار قطر كان أفضل تعبير عن تمسكها باستقلالية قرارها ورفضها للانقلاب ومن يمولونه. غضب النظام يزداد يوما بعد بعد مع زيادة إصرار تركيا على عدم فتح نافذة للحوار السياسي مع نظام السيسي، ثم جاءت تصريحات وزير الخارجية لتضيف هما إلى هم الانقلاب، وتشعل نار الغضب.. ولكنه في رأيي غضب العاجز، إذ ليس بمقدور نظام السيسي أن يواجه تركيا سياسيا، ناهيك عن مواجهتها عسكريا.
نعود مرة أخرى إلى الموضوع، وهو إذا كان نظام السيسي لا يستطيع مواجهة تركيا بأي وسيلة، سلمية أو عسكرية، فلماذا كل هذا التصعيد؟
بمقدورنا الإشارة إلى مجموعة من العوامل التي قد تساعدنا على فهم ما يجري، واستخلاص جواب على السؤال الذي عادة ما يتكرر مع كل واقعة يفتعلها الانقلاب:
1-مثله مثل أي نظام مستبد حين يواجه فشلا متراكما أو يأتي وقت المحاسبة، يجنح نظام السيسي إلى افتعال معارك كبرى داخلية أو خارجية مع عدو يختاره، ويقوم بالترويج لعداوته حتى يستعيد ثقة الناس فيه، ويجمعهم على قضية. والحروب هي القضايا الكبرى التي تجمع الشعوب خلف قاداتها، ولو كانت قيادات فاسدة. لذا، يعتقد السيسي أن إعلان المواجهة مع تركيا قد يكون مخرجا له من أزماته وفضائحه، وآخرها فضيحة انتخابات الرئاسة التي اعتقل فيها منافسيه الكبار، وهم قادة عسكريون أرفع منه رتبة عسكرية، وبعضهم لديه رصيد من الاحترام لدى المؤسسة العسكرية حتى تاريخه.
2-في الوقت الذي يشن السيسي حربه البهلوانية ضد تركيا، يمارس حرب إبادة وتهجير قسري ضد شعبنا في سيناء. ولا أحد يدري على وجه الدقة حجم الخسائر البشرية والمادية، ولكننا نتوقع أن تكون أسوأ مما جرى حين قام السيسي باخلاء مدينة رفح الحدودية دون وازع من ضمير ولا إنسانية، وكأنه يغزو بلاد الأعداء.
3-يعلم السيسي وإعلامه حجم الفضيحة التي نجمت عما نشر عن قيام العدو الصهيوني بتوجيه مئة ضربة جوية على سيناء المصرية، وبالتالي يبحث عن مخرج يحفظ به وجه الجيش الذي تمرغت سمعته في التراب على يد السيسي. وبالتالي، حين يقوم بتحريك القطع البحرية في المياه الإقليمية، فإنه ينتظر من وراء إعلان الحرب على بلد كبير وعظيم مثل تركيا؛ استرداد جزء من سمعة الجيش عند الشعب الذي تأكد أن الجيش، أو قطاع القيادات فيه، شريك في معظم جرائم السيسي.
4-يعلم السيسي أن المصائب لا تأتي فرادى، وهو يدري أن الموقف التركي ربما يستند إلى حقائق ووقائع ومستندات قد تغير المعادلة، لذا، وبدلا من النقاش الهادئ الموضوعي، يخرج النظام بإعلان الحرب البهلوانية ضد تركيا، سعيا أو ظنا منه أن تركيا ستتوقف خوفا وخشية من إعلام السيسي الذي مارس بلطجته على السعودية والكويت وقطر من قبل، وربما استطاع ابتزاز بعض هذه الدول.
5-يواجه السيسي معارضة ومقاومة غير مسبوقة، وهي معارضة امتدت من أنصار الشرعية والثورة إلى معارضي النظام من أنصاره أو ممن سكتوا على جرائمه بغية إصلاحه، إلى مناوئيه في المؤسسة العسكرية. ويعتقد، وفقا للواء عباس كامل (كبير مستشاريه ومدير مكتبه سابقا وربما حاليا، ورئيس المخابرات الراهن) في تسريبات صوتية قديمة، أن الأمر لا يتعدى الحصول على اللقطة (أي الصورة)، وهو ما قام به السيسي، إذ ارتدى الزي العسكري وجلس في غرفة العمليات ليتابع ما يجري في سيناء من حرب إبادة؛ مستخدما القوة الغاشمة، على حد قوله.
المفارقة في الموضوع التركي؛ أن السيسي وإعلامه يتحدثون كما لو كانوا وطنيين حقا، ويصرخون كما لو كان السيسي لم يفرط في تيران وصنافير، ولم يرمش له جفن، ولم تهتز له شعرة، رغم حكم المحكمة البات والنهائي بحرمة التنازل عن الأرض المصرية.
الآن فقط يتحدث السيسي وإعلامه كما لو كانت تركيا هي التي اعتدت على حقول الغاز ونهبتها، وليس شركة إيني الإيطالية التي تحصل على 40 في المئة من إجمالي إنتاج الحقل كمقابل للاستثمارات التي ضختها، ولا نعلم عن قيمتها شيئا، هذا بالطبع ناهيك عن 50 في المئة من إنتاج الحقل كنسبة مقابل التشغيل.
ليس بوسع السيسي المتورط في سيناء (ولن يخرج منها سالما) أن يشن حربا من أي نوع على تركيا التي تتمدد وتتوسع وتنمو وتقفز قفزات نوعية على عدة مسارات، وليس لدى السيسي القدرة (حتى وإن أراد أن يواجه تركيا) أن ينجو إذا ما واجه تركيا، أو واجهته دبلوماسيا أو قانونيا.
تنتهي الحروب الوهمية بانتصارات وهمية، والخاسر في كل هذه المعارك هو الشعب، أما الضحية فهي الحقيقة التي لا نصل إليها أبدا إلا بعد زوال ملك المستبد.