لا أقصد بمصر الوطن، ولا أقصد بمصر الأرض الطيبة وأهلها المغلوبين على أمرهم؛ وإنما أقصد بمصر نظام العسكر الغاشم الذي جعل البلاد ثكنة عسكرية لا تشم فيها إلا رائحة الدم والمشانق المعلقة والأرواح المُزهقة.
بعد كل ليل طويل لا بد أن يأتي صبح النهار، ونهار ورجوع أشعة الشمس لتضيئها هو يوم انعتاقها وفك رقبتها من ظلوم جهول هو قاب قوسين أو أدنى أن يقول أنا ربكم الأعلى.
ليس الهدف من المقال الحديث عن اللزوم الجهاز ذلك أن الكتابة عنه تشريف له، وذاك ما ننزه أقلامنا عنه لتبقى طاهرة زكية تقوم بواجب جهاد الكلمة التي تؤتي أكلها ولو بعد حين بإذن ربها.. هدفنا من هذا المقال أن نرصد حالة الانهيار التي ينبغي أن ننتبه لها ذلك أن البلد تعيس ظرفا دقيقا على جميع الأصعدة حالة عنوانها الكبير بداية الانهيار.
تتهاوى الأنظمة (وهنا أتحدث عن الأنظمة الشمولية
الاستبدادية) عندما تظن أنها وصلت إلى بر الأمان؛ لأن بر الأمان بالنسبة لها لا يتم إلا بالإجهاز عن أي خصم تراه مناوئا لها؛ بالبطش، والبطش فقط، ولعل رصدنا المظاهر بداية الانهيار من خلال استقراء الواقع
المصري يجعل الصورة أمامنا جلية واضحة، لعل ذلك يجعلنا يقظين لطبيعة اللحظة ومآلاتها.
الإجهاز على المشهد السياسي
ما مصير الأحزاب السياسية في مصر الآن؟ ما مصير مؤسسات المجتمع المدني؟ أين هي حركة كفاية؟ وأين هي حركة السادس من أبريل؟ وأين.. وأين.. وأين؟.. أفرغت الحياة السياسية من كل فاعل أو لنقل بشكل أدق من كل كائن حي؛ لا مجال لا للأحزاب التاريخية ولا للحركات السياسية التي كان لها بصيص صوت مسموع أيام المخلوع مبارك.
تم الإجهاز على الجميع بمن فيهم حتى حلفاء الأمس.. لا يؤمن الاستبداد بمفهوم الشراكة في الوطن، وبالأحرى في إدارة دفة الحكم.
صحراء قاحلة هو المشهد السياسي المصري؛ الصوت الوحيد فيه هو رياح وعواصف الاستبداد العسكري المقيت.
إن هذا الإجهاز على المشهد السياسي المصري لحد التصحر هو ينم عن بلادة الحكم، لا عن صبر ولا بصيرة، إذ لا يدري الاستبداد العسكري أنه بإحداث هذا الفراغ في ساحة الشأن العام واغتياله لكل الأطياف السياسية، سواء كانت حليفة أو معارضة، اغتيالا معنويا أو ماديا؛ هو في حد ذاته إفراغ لمحتواه وتقطيع لأليات الفعل السياسي، بل إن هذا الإجهاز على المشهد السياسي هو في حد ذاته يسير به إلى الهاوية لأنه لن يجد ما يأكل إلا ذاته.
قاعدة سياسية هي لا يفهمها الاستبداد، ولا يمكن أن يستوعبها: الحرية والتنوع قاعدة من أهم قواعد استمرارية أي نظام.
الإجهاز على المؤسسة العسكرية
ماذا يعني تغيير رئيس المخابرات العامة؟ وماذا يعني اعتقال سامي عنان وأحمد شفيق وأحمد قنصوة، بل واعتقال الكثير من العسكريين، بينهم ثلاث قيادات من المنطقة العسكرية و23 عسكريا الموالين لسامي عنان في الإسكندرية؟
فماذا يعني إقحام المؤسسة في حرب شعواء في سيناء صد حفنة من الإرهابيين؟ إنه الإجهاز على المؤسسة العسكرية من خلال المزيد من القبضة الحديدية عليها، حتى العسكر الذي يعتبر الأساس في الانقلاب على الشرعية القانونية.. حتى هذا الجيش لا يثق به الاستبداد، لا ثقة في قيادات الأمس وأصدقاء الأمس وشركاء الأمس في الانقلاب. إن إحداث هذا التصدع داخل بنية الجيش ونهج سياسة الهروب إلى الأمام بإدخاله إلى سيناء كل ذلك يمثل إجهازا على هذه المؤسسة. فبعد أن كان قوة ذات بعد استراتيجي في المنطقة العربية، أصبح مسرحا لأهواء الحاكم العسكري.. فإنما هو إضعاف للجيش وتكسير هيبته التي طالما كانت مصدر فخر وافتخار, وأقبح من هذا وأنكد؛ جعل هذا الجيش هو أداة القمع والتنكيل بالمواطن. إنها خطة ممنهجة هدفها أن يصبح هناك جدار فاصل بين المواطن والجيش، بعدما كان الشعار (الجيش والشعب يد واحدة).
نكس علم الجيش وضاعت مهمته؛ لأنه لا شيء يعلو فوق الزعيم حتى ولو كان جيش السابع من أكتوبر، الزعيم أولا والزعيم وسطا والزعيم آخرا.
تعويم مصر
إنه ليس تعويم الجنيه، وإنما هو تعويم مصر وجعلها مرتهنة لصندوق النقد الدولي وحلفاء الانقلاب السعودية والإمارات. فقد أعلن البنك المركزي المصري في تقرير حديث له ارتفاع حجم الدين الخارجي للبلاد بنسبة 40 في المئة خلال عام واحد، وذلك في النصف الأول من السنة المالية 2016 - 2017.
وأشار البنك في تقريره إلى أن الدين الخارجي ارتفع إلى 67.3 مليار دولار، وذلك على أساس سنوي في الفترة من تموز/ يوليو وحتى كانون الأول/ ديسمبر من 2016، مقارنة بنفس الفترة من عام 2015، عندما بلغ الدين الخارجي نحو 48 مليار دولار.
وأشار البنك إلى أن إجمالي الدين قصير الأجل المستحق على مصر كان واجب السداد قبل نهاية كانون الأول/ ديسمبر 2017، يبلغ 11.9 مليار دولار.
هذه المؤشرات كلها تشير وتؤكد أن مصر كلها تم تعويمها في متاهات الإفلاس الاقتصادي. نكسة هي أكبر من نكسة 1967.
معادلة معقدة مركبة
إفلاس على كل المستويات، لا نذكر هذه المؤشرات من باب العرض الأكاديمي، وإنما لأنها دلالات على أن ما قدمنا به كعنوان هو الحقيقة الحتمية في قابل الأيام.
احترقت كل أوراق الاستبداد، ودخل في دوامة أصبح فيها خلاصتها الطبيعية حتمية الانفجار القريب وبداية الانهيار. الكابوس قرب أجله.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.