تمثل ردّ الفعل
الإسرائيلي الأولي على أحداث
انتفاضة الحجارة، بإشهار القبضة الحديدية في وجه الفلسطينيين، وكان أقل ما يقال عنه إنه هستيري، ولشرح ذلك، ينبغي التطرق للتفسيرات الإسرائيلية للانتفاضة، ومنهج التعامل معها وأساليبه، التي تراوحت بين عدة اتجاهات:
أ-وجه عدد من المثقفين الإسرائيليين نداء بعنوان "كفى للقبضة الحديدية"، نشر في الصحافة بعد زيارة قاموا بها لقطاع غزة، جاء فيه: هناك في غزة انتفاضة جماهيرية يقودها شباب، وتدعمها كل الجماهير، ولا شكّ أن التنظيمات السياسية تؤجج لهيبها، لكنها ليست هي التي أطلقتها، لأن سببها المهانة التي ولّدها استمرار الاحتلال، ومصادرة الأراضي، والضغط المستمر لسلطات الاحتلال لإجبار الناس للتعامل معها، والوضع الاقتصادي الذي يعيشه غالبية السكان، وبشكل خاص غياب الأمل في أي حلّ.
ب-باغت اندلاع الانتفاضة الأوساط الإسرائيلية، لاسيّما العسكرية، وفاجأتهم قوتها وشموليتها واستمراريتها، وهي التي اعتقدت أن الاحتلال استطاع خلال عشرين عاماً أن يجعل من الضفة الغربية وقطاع غزة ملحقة به، ونجح في تحييد الغالبية العظمى من أهلهما، ولم يخطر بباله أن سكان المناطق سيجرؤون على تحدي سلطته العسكرية المطبقة عليهم بانتفاضة شعبية عارمة.
ففي نيسان/ أبريل 1987 سأل صحافي منسق الشؤون الخاصة في وزارة الدفاع "شموئيل غورن" متى سيبدأ التمرد في المناطق؟ فأجابه بلهجة واثقة: لن يكون هنالك تمرد أبداً، فسأله الصحفي: هل أنت واثق مما تقول؟ أجابه: أتراهن؟
ت-أصاب الارتباك القيادة الإسرائيلية السياسية والعسكرية على حدٍّ سواء، لأنها لم تستطع تحديد طبيعة الانتفاضة بدقة: هل هي حرب؟ وإذا كانت كذلك، كيف يمكن التعامل معها، وبأية وسائل؟ وإذا كانت تمرداً، كيف يمكن وضع حدٍّ لها؟ أم هي نزاع طويل، وإلى متى سيستمر؟
وساد اتفاق في الحكومة والجيش على أن الانتفاضة حرب جديدة بقواعد مختلفة، ورفض معظم الوزراء اعتبارها نزاعاً طويلاً، بل أراد معظمهم رؤية الانتفاضة وكأن بالإمكان القضاء عليها دفعة واحدة بحلٍّ عسكري. وثمة من رأى أن الانتفاضة هي حرب في كل شيء، وهي أسوأ وأصعب من جميع الحروب التي مرت بها "إسرائيل"، لأنها حرب متواصلة وطويلة، وقريبة من بيتنا.
ث-بقيت القيادة الأمنية العسكرية الإسرائيلية غارقة في غطرستها، وأعماها جمودها الفكري وعنصريتها عن فهم الانتفاضة لحظة انفجارها، ولم تستطع رؤية الظواهر الجديدة في الحركة الشعبية الفلسطينية كما هي، ولم تقرأها بصورة موضوعية مجردة عن عنجهية المحتل، واكتفت بالتعامل معها باعتبارها تكراراً لأحداث تعودت عليها لسنوات طويلة.
ج-ظنّ أركان القيادة العسكرية الإسرائيلية أن بإمكانهم السيطرة على الانتفاضة بسهولة خلال أيام معدودة بالأساليب والوسائل القديمة، هكذا كانوا مقتنعين، وهكذا كانت تقاريرهم للقيادة السياسية، وبسببها رفض "رابين" الأخذ بنصيحة بعض مستشاريه بقطع زيارته لواشنطن والعودة إلى تل أبيب لمعالجة الموقف، وشجعته على إطلاق تصريحات عنجهية من واشنطن قال فيها: بعد أيام سأعود إلى تل أبيب، وعندها ستنتهي حركة "الشغب" الجارية في المناطق المحتلة.
ح-ربما يصطدم المراقب لعدم رؤيته تقييماً إسرائيلياً مجمعا عليه لأحداث الانتفاضة، في ظل بروز عدد من التقييمات المتعددة لها، بل لكل مظهر من مظاهرها، وحتى لو اتفق إسرائيليان على تشخيص بعض جوانبها، فإنهما لا يخلصان لاستنتاج واحد، وما يلبث أن يلاحظ أن نظرة الإسرائيليين للانتفاضة محكومة إلى حدٍّ بعيد بمواقف سياسية وأيديولوجية مسبقة، أي أن كل طرف ينطلق من تقييمه لها من موقع سياسي معين، ويخلُصُ بالتالي للاستنتاجات التي تنسجم مع آرائه وتوجهاته.
خ-بعد فشل هذه التهديدات في إخماد لهيب الانتفاضة، حدثت أزمة في الاطمئنان النفسي الإسرائيلي للقوة العسكرية، إذ لم تعد "إسرائيل" قادرة على اعتماد ما تحصلت عليه من أسباب القوة لإخماد وهجها المتنامي، بعد أن فرضت الانتفاضة على إسرائيل نمطاً من المواجهة لم يحسب العقل الاستراتيجي الإسرائيلي حسابه، وبالتالي نجحت الانتفاضة في تحييد هذه القوة العسكرية وشلّ فعاليتها.
ولأن السياسة الإسرائيلية فوجئت بزخم الانتفاضة، فقد تمثل ردّ فعلها المباشر في التقليل من شأنها، ومحاولة سحقها عسكرياً، وبأن أحداثها لم تكن منظمة، غير أن هذه المحاولات لم تكن سوى محاولة آنية فاشلة لطمأنة المستوطنين، الأمر الذي لم يدم طويلاً، مما دفع ممثلي الأحزاب والقوى السياسية الإسرائيلية لدعوة حكومتهم لممارسة أقصى درجات العنف ضدّ الانتفاضة ونشطائها.
ولعل ذلك ما دعا "إسحق رابين" لإعادة السيطرة الكاملة للجيش على المناطق خلال أيام معدودة، مما يعني عملياً إبداء الاستعداد لاستخدام القوة بصورة واسعة ضدّ المنتفضين.
وسرعان ما دفعت قوات الاحتلال بقواتها العسكرية، حيث وصلت عدد جنودها أكثر من عددها يوم احتلال الضفة والقطاع، بل زادت في بعض المناطق بنسبة 200-300%. بالإضافة لاستخدام المجنزرات، وطائرات الهليكوبتر، والأسلحة المتطورة في مواجهة الجماهير، والقمع والاعتقالات الجماعية للآلاف والتعذيب والبطش بصورة وحشية.
وكان واضحاً من تلك الإجراءات أن الجيش الإسرائيلي أضحى أسير فكرة واحدة، هي القضاء على الانتفاضة، وتحطيم أوهام الفلسطينيين الذين يعتقدون بإمكانية تحقيق شيء عن طريق المظاهرات والمقاومة.
وهكذا جاء رد الفعل الإسرائيلي على الانتفاضة، فاقدا للأعصاب ومعبرا عن النفسية العنصرية، وتجلى ذلك في انتهاج سياسة القتل، وإحكام القبضة الحديدية، والضرب، وكل أشكال التعسف.
ولنا أن نقف أمام تصريحات إسحق شامير، وإسحق رابين، وشمعون بيريس، وأريئيل شارون؛ فالأول جاهر بأن على الجيش أن يرعب الفلسطينيين حتى يهدؤوا وتسكن حركتهم، والثاني أعلن أنه سيتابع إصدار الأوامر للجنود كي يقوموا بقمعهم، والثالث تابع تصريحات زخرف القول كعادته، والرابع كما درج في سياساته كلها يهدد ويتوعد الفلسطينيين والعرب والعالم كله.
وأخذ ردّ الفعل الإسرائيلي على الانتفاضة حالة تصاعد مستمر، ممثلا بالقتل والضرب وسياسة تكسير العظام، واستعمال الرصاص المطاطي والحي، والاعتقالات العامة والاستثنائية والوقائية، وفتح ثمانية سجون جديدة، وإغلاق الجامعات والكليات، واحتلال المدارس المغلقة وتحويل بعضها لمعسكرات جيش ومراكز اعتقال، وتعميم سياسة العقوبات الجماعية كالقيود المالية، وهدم البيوت، ومراقبة الصحافة والاعتداء عليها، واعتبار اللجان الشعبية خارجة عن القانون، وإقفال المؤسسات والجمعيات الخيرية، والقيود الاقتصادية كمنع تصدير بعض المحاصيل، وفرض منع التجوال وخاصة على القرى والمخيمات البعيدة.