هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
من الناحية المبدئية، يمكننا اعتبار ترشيح حركة النهضة لتونسي يهودي الديانة في قائمتها الانتخابية بولاية المنستير؛ خطوة تقدمية وذات رمزية عالية في اتجاه تكريس التعددية الدينية، والاعتراف بأننا في تونس لسنا جماعة إيمانية متجانسة، بل مجموعة وطنية يختلف أفرادها في انتماءاتهم الأيديولوجية، بل يختلفون حتى في مستوى خياراتهم المذهبية والدينية. ولكن مثلما كان متوقعا، جاءت هذه الخطوة لتزيد في تعميق العلاقة الصدامية الثابتة (بل الخطيرة) بين القوى العلمانية وبين حركة النهضة التي لم تنجح حتى الآن في حمل أغلب الشركاء "العلمانيين" على التطبيع معها؛ رغم كل "تنازلاتها" و"توافقاتها" التي كلفتها غاليا في مستوى قاعدتها الانتخابية المتدينة والمحافظة. وليس يعنينا في هذا المقال بيان مسؤولية النهضة في هذا المأزق، ولا بين مسؤولية القوى"العلمانية" في تثبيت الشرخ الهووي والخطاب الصدامي الذي يتأسس عليه، بل غاية ما يعنينا هو التنبيه إلى واقع صدامي عنيف يحكم علاقة النهضة بأغلب خصومها، وهو واقع يهدد بنسف المسار الانتقالي الهش، بل يهدد بنسف الحقل السياسي القانوني ذاته بحكم بروز أصوات"انقلابية" لا تخفي رغبتها في العودة إلى مربع 13 كانون الثاني/ يناير 2011، بل إلى مربع 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987 لو أمكنها ذلك.
بعيدا عن التثمين والتبخيس الذي يطبع مواقف من أسماهم الصديق المناضل لامين البوعزيزي بـ"الضرائر الأيديولوجية"، سأحاول في هذا المقال أن أتحرر من الإشكاليات السياسية أو الفقهية التي قد يجرّنا لها السجال العام المحكوم أساسا باستراتيجيات" الدولة العميقة"، وهو ما يعني أنني سأتناول شيئا من المسكوت عنه وسأطرح جملة من الأسئلة على النهضة وعلى خصومها "العلمانيين"، انطلاقا من إيماني العميق بأولوية "النقد المزدوج" في هذا السياق التاريخي المحكوم بأحادية الصوت، رغم كل ادعاءات قبول الاختلاف والتأسيس للمشترك:
- هل تستطيع النهضة (بما هي حزب سياسي ذي مرجعية دينية سنية بصورة عامة، وإخوانية بصورة خاصة) أن تقبل بالانفتاح الحزبي أو الانتخابي على الشيعة والمتصوفة أو الأحمدية مثلا؟ إن الإجابة عن هذا السؤال هي التي ستجعل من اعتبار الانفتاح على تونسي يهودي الديانة أمرا تقدميا حقيقيا؛ وليس مجرد مناورة تكتيكية لا تخرج عن التراث الفقهي والسياسي "السني". ففي هذا التراث (الذي أعادت تشغيله الحركة الوهابية ووجهته وجهة معادية للشيعة والمتصوفة ومن بعدهما للمذاهب "الكفرية"، كالديمقراطية والعلمانية وسائر المفاهيم المؤسسة للاجتماع السياسي الحديث)، نجد أنّ اليهود والنصارى أقرب من الشيعة أو من المتصوفة. فضرر الشيعة أو المتصوفة (أي القبورية بلغة السلفية) أعظم على الديانة القويمة (أي مذهب أهل السنة بصفة عامة، وتحديدا على الوهابية والحركة الإخوانية بعد توهيبها بصورة كبيرة) من اليهود والنصارى. وقد يفسر لنا هذا الأمر طبيعة العداء الذي تكنّه الوهابية السعودية لإيران وتركيا، رغم اختلافهما في المذهب، كما قد يفسر لنا أيضا جزئيا العلاقات "الاستراتيجية" بين السعودية الوهابية وبين المحافظين الإنجيليين وصهاينة الكيان والشتات.
- هل يمكننا اعتبار النهضة نقطة جذب للأقليات الدينية والمذهبية، أم إنها ما زالت تُمثل خطرا حقيقيا (أو على الأقل تُمثل خطرا كامنا) على هؤلاء المنفيين في الهوامش والمسكوت عنه والمقموع خطابيا واجتماعيا، هؤلاء الذين يمثلون "البدعة" و"الضلالة"، خاصةً عند القواعد التي لم تغادر بعد العقلية المذهبية التراثية المحكومة بأحادية الحق وتعددية الباطل؟ ولو أردنا صياغة السؤال بطريقة أخرى لقلنا: لماذا لا يجد الشيعة والصوفية أو الأحمديون مثلا في النهضة حليفا سياسيا موثوقا في ترسيخ حقوق الأقليات الدينية؟ وماذا فعلت النهضة لتبعث برسائل طمأنة لهؤلاء بعيدا عن الاستحقاقات الانتخابية؟ ولعل ما يزيد من راهنية هذا السؤال وأهميته هو أن النهضة ذاتها ما زالت تعامل من لدن النخب العلمانية (رغم كل ثقلها الانتخابي وتمثيليتها الاجتماعية)، وكأنها "أقلية دينية" وتعبيرة سياسية دخيلة على "النمط المجتمعي التونسي".
- لماذا يصرّ "الحداثيون" بأدوارهم الاجتماعية المختلفة (المثقف والإعلامي والنقابي والسياسي والجامعي.. الخ) على تجنب الدخول في محاورة حقيقية مع حركة النهضة، محاورة يكون هدفها بناء"المشترك الوطني" متحرر من منطق الصراع الوجودي والنفي المتبادل؟ أي لماذا يحرص أغلب الحداثيين على تثبيت النهضة في صورة "نمطية"، وعلى تبخيس كل ما تقوم به ولو كان في اتجاه تكريس قيم المواطنة وثقافة الاختلاف؟ فعندما يصرّ بعض المحسوبين على الحداثة (بل بعض رموزها مثل الأستاذ يوسف الصديق) على "تبكيت" النهضة باستعمال آيات قرآنية تُحرّض في ظاهرها ضد اليهود، وعندما يجعلون من "صك حداثة النهضة" مرتبطا بترشيح المثليين في قائماتها الانتخابية، وعندما يستحضر "الحداثيون" الأحاديث النبوية لإحراج النهضة في "ولاية المرأة على الرجال"، أي عندما يصبح الحداثي ناطقا رسميا باسم التراث في أشكاله الأكثر تصادما مع السياقات الحداثية (عوض أن يكون مثمنا لكل انزياح إسلامي عن الفهوم التراثية لمصادر التشريع، خاصة تلك المتعارضة جوهريا مع مبادئ الانتظام السياسي الحديث)، عندما يكون هذا هو حال الحداثي، فإننا لا يمكن أن نعتبره محاورا نقديا للإسلام السياسي، بقدر ما هو عقل دوغمائي لا يتورّع عن استعمال الحجة ونقيضها لتقوية قناعاته الإيمانية وحماية امتيازاته الاجتماعية، وإن اتخذ خطابه أشكالا مُعلمنة أو حداثية في ظاهرها.
لا شك في أن الدفع بالنقاش العام إلى الدائرة الهوياتية عند كل استحقاق انتخابي ليس أمرا اعتباطيا ولا عفويا. إنه تعبير عن توافقات "خفية" يجد فيها جميع الفرقاء مصالحهم، بصرف النظر عن مواقفهم الرسمية. فغياب البدائل الحقيقية ووعي النخب التقليدية جميعها (بإسلامييها وعلمانييها) بمحدوديتها وعجزها عن إحداث أي تغير حقيقي في منوال التنمية في الداخل (وفي علاقات التبعية والتبادل اللامتكافئ مع الخارج) كل ذلك يجعلها تستمرئ هذا النقاش العام؛ لأنه يغطي سوآتها وأولها عجزها عن مغادرة المربّع الهووي دون أن تفقد علة وجودها ذاته. ولا يبدو أنّ الانتخابات البلدية تشذ عن هذه القاعدة، وهو أمر لا تؤكده فقط القضايا الهووية المطروحة في مستوى النقاش العام، بقدر ما يؤكده المسكوت عنه أو المقموع ضمن هذا النقاش: أي غياب البدائل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية (بل البدائل المجتمعية) القادرة على إخراجنا من الجمهورية الأولى حقيقة لا مجازا.
قراءة في مواقف السلطة و"القوى الديمقراطية" التونسية من الثورة السورية