العنوان هو الفصل 13 من
الدستور التونسي، دستور الثورة الجديد الذي تم إقراره من قبل أول مجلس منتخب للتونسيين بشكل حر ونزيه منذ "الاستقلال". وكانت تصريحات رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة، سهام بن سدرين، هذا الأسبوع حول حيازة الهيئة أرشيفا من الوثائق الدالة على تدخل أطراف دولية، خاصة
فرنسا (ليس فقط في فترة الاحتلال بل أيضا في مرحلة الاستقلال) في تسيير
الثروات الطبيعية، وضمان هيمنة شركاتها على الصفقات العمومية مناسبة أخرى لإثارة قضية السيادة على الثروات الطبيعية. التصريح أثار جدالا متجددا، واستدعى ردا رسميا سريعا (ومتسرعا) من السفارة الفرنسية.
بالمناسبة، السيدة بن سدرين أشارت في الكواليس إلى أن ما نشرته ليس إلا جزءا صغيرا جدا في بحر الأرشيف الذي تحوزه الهيئة، والتي تخوض الآن معركة بقاء مع المنظومة القديمة التي تهيمن على مقاليد الدولة وتريد منعها من تمديد عهدتها، كما يضمن الدستور.
الحقيقة تعرض الفصل 13، الذي أتشرف أني كنت ضمن قيادة حزب دافع بقوة على تضمينه في الدستور، لنقد متواتر (وأحيانا عنيف) من أنصار المنظومة التي قامت ضدها الثورة، وسبق في السنوات الأخيرة لمسؤولين في قطاع الطاقة أن عبروا بوضوح عن تحميلهم المسؤولية لهذا الفصل في تراجع الاستثمار في الطاقة. ولم يكن ذلك إلا صدى لامتعاض أطراف خارجية، وليس محلية فحسب. والجميع في تونس يتذكر تصريح وزير الطاقة، زكرياء حمد، ردا على حملة "وينو البترول" الشعبية الداعية للشفافية في تسيير ملف الطاقة في منتصف سنة 2015 يوم 4 حزيران/ يونيو 2015: "أتلقى يوميا اتصالات من السفراء في تونس يُعبرون فيها عن قلقهم من حملة وينو البترول".
لا تسبح تونس بالضرورة على بحيرة من البترول بما يجعلها مطمعا للشركات الكبرى، لكن بالتأكيد فيها ما يكفي لكي يجعلها هدفا لأطماع شركات البترول، خاصة إذا كانت هويتها فرنسية تعتبر تونس حتى بعد استقلالها السياسي مجرد حديقة خلفية لباريس.
الوثائق التي نشرتها هيئة الحقيقة والكرامة تضمنت حقائق عنيدة، وربما صادمة للكثيرين. هذا التقرير المهم للذاكرة وللراهن يعكس تواصل الاتفاقيات المجحفة لمصلحة الشركات الفرنسية؛ على حساب مصالح الدولة التونسية بعد الاستقلال. وهم التأكيد هنا أن هذا العمل التوثيقي والتحليلي لهيئة الحقيقة والكرامة يقوم به مؤرخون، ولا يتدخل فيه السياسيون أو الحقوقيون.
من بين ما تضمنه التقرير على سبيل الذكر لا الحصر: "التزام الدولة التونسيّة بمنح حقّ الأفضليّة للمشاريع الفرنسيّة عند تساوي الشروط للحصول على رُخص التفتيش والاستثمار وعلى اللزم". وكذلك: "عدم قدرة الدولة التونسيّة على تغيير آجال اللزمات والاتفاقيات ورُخص التفتيش والاستثمار المبرمة أو الممنوحة؛ إلاّ بموافقة الطرف الفرنسي".
تضمنت خلاصات تقرير الهيئة ما يلي:
- يعود الاستغلال الفاحش للموارد الباطنيّة التونسيّة لما تضمّنه الفصلين 33 و34 من اتّفاقيّة الاستقلال الاقتصاديّة والماليّة، ولما أقرّته دولة فرنسا الاستعماريّة من اتّفاقيات بشروط مجحفة، ومن المهم جدا التنصيص هنا بأن وثيقة الاستقلال لم تلغ بنص العبارة الأجزاء الخاصة بالامتيازات الفرنسية الواردة في اتفاقية الاستقلال الداخلي سنة 1955، في حين ألغيت بالنص تلك المتعلقة بالجوانب الأمنية والعسكرية والسياسية.
- توجد بعض الاتّفاقيات التي تضمن الحدّ الأدنى من حقوق الدولة التونسيّة، خاصّة كلّما وقع اللجوء إلى المنافسة مع شركات منافسة للشركات الفرنسيّة.
- ضعف القدرة التفاوضيّة للحكومة التونسيّة مع شركات المستعمر الفرنسي مقارنة بالجار الجزائري، وذلك راجع للاتفاقيّة النهائية للاستقلال أو للوضعيّة السياسيّة الداخليّة بعد الاستقلال.
- رغم اختلال التوازن في مناقشة الصفقات الاقتصادية الهامّة، إلاّ أنّ حكومة الاستقلال حاولت ما في وسعها لإضفاء بعض التوازن على هذه العلاقة، إلاّ أنّها تبقى دون المأمول ولم تف بمتطلّبات الحقبة التاريخيّة.
من بين أهم الوثائق التي نشرتها هيئة الحقيقة والكرامة، برقية من السفير الفرنسي في تونس "GUEURY" في شهر أيار/ مايو سنة 1972؛ تكشف عن تدخله مباشرة لدى وزير الاقتصاد التونسي آنذاك، الشاذلي العياري، للاستحواذ على صفقة عمومية تخص استغلال النفط في خليج قابس؛ لمصلحة "الشركة الفرنسية للبترول" (C. F. P. CompagnieFrançaise des Pétroles).
للتذكير، فالمؤسسة التونسية للأنشطة البترولية (ETAP)، التي تأسست في ذات السنة، تم دفعها بقرار سياسي لأن تكون مجرد وسيط في الاستثمار النفطي والغازي؛ عوض أن تكون شركة مستثمرة بذاتها. فمن الواضح أنه لم يكن من مصلحة الشركات الأجنبية، وعلى رأسها الفرنسية، أن تستثمر مؤسسة وطنية في النفط في تونس. البرقية المذكورة هي مجرد مثال على هذا السياق العام بداية السبعينيات، زمن إمساك الهادي نويرة مقاليد الوزارة الأولى.
الرد الفرنسي الرسمي كان متسرعا، إذ تضمن مغالطات واضحة، من بينها - على سبيل الذكر لا الحصر - تجاهل ما احتوته الوثائق حول تدخل السفراء الفرنسيين بعد الاستقلال، وليس خلال فترة الاحتلال فقط.
الفصل 13 من الدستور هو عنوان وعي للعلاقة الوطيدة بين السيادة الشعبية السياسية، أي الديمقراطية والسيادة على الثروات، وهي مكون أساسي من حزمة شروط التنمية التشاركية الفعلية التي لم تتحقق بعد. المعركة طويلة ولا نزال في مراحلها الأولى، لكن لم يعد من الممكن بعد تهميشها أو ردمها تحت تراب النسيان.