الأحد الماضي، انتهت فعاليات معرض إسطنبول الدولي للكتاب في دورته
الخامسة، بمشاركة 450 دار نشر تركية من بينها 100 دار عربية. إذ إن الوجود
العربي
في العاصمة التاريخية التركية صار أمرا تراعيه الهيئات الثقافية الرسمية منذ سنوات.
كانت
لندن في الثمانينيات ملتقى للمُطاردين العرب من السلطات المختلفة، وإن بقي لها بعض
هذا الدور، إلا أن إسطنبول في ظل زخم ما بعد الربيع العربي صارت الملتقى الأرحب
للمطاردين العرب، بخاصة مع إقرار الإقامتين السياحية والإنسانية، ورخص إيجار
العقارات والخدمات المعيشية مقارنة بعاصمة الضباب، وقبول المدارس التركية الحكومية
لأبناء المصريين والسوريين.
راعت
السلطات التركية الإعفاءات الضريبية للناشرين المشاركين في المعرض هذا العام، حتى
أخبرني أحد الأصدقاء من الناشرين بأن عدد المشاركين في هذه الدورة كان من المفترض
أن يكون 26 ناشرا فحسب، لكن الإعفاء الضريبي رفع العدد إلى قرابة أربعة أضعاف دفعة
واحدة.
مقارنة
أجواء المعرض التركي بمعرض القاهرة الدولي للكتاب تظلم الأخير من ناحية التنظيم
واختيار المكان، وتفرغ المعرض للكتب بشكل حقيقي، وإن كان الأمر في الشكل لا يختلف
في كثير عن معرض أبو ظبي للكتاب، اللهم إلا في توسط المعرض لإسطنبول والسهولة
الشديدة في الوصول إليه، مقارنة بمعرض أبو ظبي النائي في مكانه المتطلب لمواصلة
خاصة في الوصول إليه، واختلاف المضمون المعروض في المعرض من فعاليات وكتب.
يقع
معرض إسطنبول في المحطة قبل الأخيرة من خط مترو الأنفاق الرئيسي، وهو الخط المنتهي
بمطار "أتاتورك" الرئيسي حتى اليوم في العاصمة التاريخية، والأمر لا
يكلف زحاما شديدا في الوصول للمعرض ولا تكلفة خاصة. وفي العام الماضي كانت هناك مسافة
بين مقر المعرض من أرض التجارة الدولية حيث المعرض والمترو، وفي المقابل كانت هناك
سيارات مكيفة تنتظر القادمين وتوصلهم للمعرض مجانا.
هذا
العام تم التغلب على الأمر بتوسع جعل المعرض يبدأ من خطوات قليلة أمام المترو، مع
جعل القسم العربي على يمين الداخل قبل أن يجد نفسه في ساحة طولية أمام أجنحة دور
النشر التركية. ومن ضمن حدود المعرض العربي قاعة مخصصة للندوات العربية، خصصت جزءا
كبيرا منها للثورات، بخاصة ندوتي السبت الماضي حول الثورة التونسية، وآفاق استشراف
الثورة المصرية. وشارك في الندوة الأخيرة الدكتور "سيف عبد الفتاح"،
أستاذ العلوم السياسية السابق بجامعة القاهرة؛ موضحا وجهة نظر تبدو رائعة متكاملة
في سياقها، إذ شرح أن منطقة الشرق الأوسط تتوسط العالم كتعبير عن سيادة الأمة
الإسلامية الوسطية.
وأضاف
الدكتور "عبد الفتاح" أن "سايكس بيكو" لتقسيم الأمة ما تزال
مستمرة في نسخة ثانية حالية، ومن المفترض أن تتبعها محاولات أخرى. وفي المقابل،
يخطئ من يظن أن صفقة القرن مقصورة على الفلسطينيين، بل إن الأحداث في سوريا ومصر
واليمن جزء من كتاب الصفقة هذا، والأهم قرار نقل السفارة الأمريكية للقدس، إذ
تعتبر الأخيرة المؤشر الدال على موقف الأمة اليوم، ومع التأكيد على الانتباه إلى
أن المطلوب قطع جزء من الصفقة خلال فترة ترامب الرئاسية الأولى.
في
نهاية كلماته علق الدكتور "عبد الفتاح" على من يطالبه بفعل مستقبلي
يشارك فيه؛ بأنه يقترح هيئة استراتيجية عربية تجمع العقول من جميع الأقطار
الموجودة في إسطنبول لفعل ذلك.
أما
عن الكتب في قسم
الكتاب العربي من المعرض، فيهولك ويفزعك كم التراجع في الكتاب
الإسلامي المعتدل، فدور النشر المصرية التي لطالما حملت كتب الشيخ "محمد
الغزالي"، والدكتور "يوسف القرضاوي"، والراحل "محمد قطب"
والعشرات غيرهم إلى العالم؛ صارت ممنوعة اليوم لا من عرض الكتب في مصر فحسب، بل من
مجرد الخروج بها من أرض الكنانة لمعارض العالم.
وهذا
المنع لم يقف أمام الكتاب ذي النكهة الإنسانية والإسلامية فحسب، بل تجاوز إلى كل
ما يحمل حسا ثوريا للأسف حتى الروايات والأعمال الأدبية التي تناولت الأحداث الثورية
المصرية، على قلتها، لم يستطع ناشر الخروج بها من مصر خوفا من الملاحقة الأمنية
والاعتقالات.
وبين
غياب هذا وذاك بل كل كتاب يناقش الثورة ومفاهيمها وعوامل نجاحها وأسباب الفشل أو
تأخر تأثيراتها، غياب هذه الكتب، حتى إن كانت خاصة بثورات سابقة، مع مصادرة الكتاب
الإنساني قبل الإسلامي، وإيقاف الناشرين من ذوي الصبغة نفسها ومصادرة دور نشرهم في
مصر.. كل هذا أضعف المنتج القادم من مصر، وجعل عناوين الكتب أقرب إلى الثقافية
والاجتماعية والأدبية المعتادة المكررة.
قادتني
ابنتي الصغرى "دعاء" بطلبها مجموعة كتب بين جنبات المعرض العربي، وفي
غفلة التفت فوجدتُ أمامي كتبا تعلم القرآن الكريم في الصغر، ووسائل إيضاح صوتية
لقراءة القرآن الكريم، فتعجبتُ من الأمر وقلتُ في نفسي: أين نحن؟ ولكنني لما
التفتت مدققا أكثر اكتشفتُ أننا خرجنا بالفعل من القسم العربي من المعرض وأن القسم
التركي هو المهتم بمثل هذه الإصدارات. ورغم قليل ألمي الذي ازداد برفض ابنتي (11
عاما) شراء كتب عربية وإصرارها على التركية، إلا أن صوتا نبهني بعمق إلى أن
تركيا
التي بُعثت من بين يدي العلمانية المتوحشة وبدأت حكوماتها على أعلى مستوى؛ تعيد
القرآن الكريم لواجهة اهتمام الصغار والكبار في دأبة ورفق.. إن هذا الدوران تجاه
الإسلام لن يحرم الله منه دولنا العربية الإسلامية في مقبل الأيام.
تجربة
معرض الكتاب في تركيا بقسمه العربي وإن ذكرتنا بآلامنا العربية المريرة، وعدم وجود
هيئة أو هيئات عامة، ثورية كانت أو حتى اجتماعية ينصهر العرب فيها، فتطرح قدراتهم
على المسؤولين الأتراك في مثل هذه التجمعات لتنظيم ندوات متسعة الأفق تعبر عنهم
أكثر، وأخرى لضيوف من خارج القطر.. مع التعبير عن قضاياهم المختلفة، فضلا عن
مهمتها الأصلية الاستراتيجية لجمع العقول العربية. برأي الدكتور "سيف عبد الفتاح"..
برغم ما سبق والتضييق العربي على الكتاب والفكر الإنساني والإسلامي المتجدد؛ إلا
أن تجربة معرض إسطنبول للكتاب في وجود القسم العربي منه تبقى تجربة جيدة، وإن
احتاجت إلى التطوير من جانب العرب في إسطنبول.