هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يعرف المغرب معركة مرجعية كان من المفترض أن تكون الأشد حدة بحكم مضمونها وخلفياتها، فقضايا الإرث. ففضلا عن الحساسية التي يشكله المس بها لدى الجمهور الذي ينصرف ذهنه مباشرة إلى مساءلة العدالة الإلهية، فإن الإطار الدستوري يضيق أفق دينامية المطالبة بتغيير شيء من هذا النظام الشرعي. فالملك دستوريا هو أمير المؤمنين، وهو مقيد وفقا لهذا المقتضى بعدم تحليل الحرام أو تحريم الحلال، كما سبق وأعلن عقب الدينامية التي عرفها النقاش حول مدونة الأسرة.
لكن، مع كل هذه الاعتبارات، فالعريضة التي كتبها عدد من المثقفين والناشطين بشأن إلغاء التعصيب من نظام الإرث، كما هو منصوص عليه في مدونة الأسرة، لم تحرك في المغرب (خلافا للمعتاد) مثل هذه الدينامية الحادة. فحتى الآن، لم يأخذ هذا الموضوع صداه المتوقع منه، ولم يبلغ الاستقطاب الوتيرة التي كان عليها في مواضيع مماثلة في قضايا أقل حساسية من جهة حجمها في الشريعة الإسلامية، وما إذا كانت تندرج في إطار النصوص القطعية، أم النصوص الظنية، أم مناطق الاجتهاد الواسع..
المؤسسة الدينية، وباستثناء بعض التعبيرات الفردية، لم تعلن عن موقفها من هذه القضية، مع أنه لا يتوقع منها ما يخالف دأبها في مواقف مماثلة من مناصرة نظام الإرث، ومواجهة الدعوات التي تحاول نسفه بصفة كلية بإدخال مطلب التسوية بين الذكر والأنثى، أو جزئيا بالالتفاف على مطلب التسوية بطرح قضية إلغاء التعصيب من نظام الإرث، لتحويل المعركة المرجعية من التحرش بنصوص القرآن إلى الاحتكاك بنصوص السنة.
لكن سياق إثارة هذا الموضوع، وبشكل خاص الطرق الإعلامي الكثيف على مغادرة الدكتورة أسماء المرابط لمركز فكري يشتغل على قضايا المرأة والقيم، وينضوي تحت الرابطة المحمدية للعلماء، ومحاولة تفسير ذلك بخلاف في وجهة النظر بين رأيها المنحاز للمساواة في الإرث، وبين رأي الرابطة المدافع عن نظام الإرث.. كل هذا عقّد الملف، وضيّق الإمكانية أمام التسريع بموقف المؤسسة الدينية، بحكم الصراع الموجود بين مكوناتها، وبشكل خاص بين وزارة الأوقاف التي يديرها أحمد التوفيق، وين الرابطة المحمدية التي يرأسها السيد أحمد عبادي.
ولذلك، سارعت الرابطة إلى التعليق على هذا الطرق الإعلامي الكثيف، ووصفه بكونه استهدافا لها، في الوقت الذي تجنبت وزارة التوفيق التعليق على الموضوع وعلى سياقه وملابساته.
لكن هذا الخلاف القديم بين بعض مكونات الحقل الديني؛ لا يفسر هذا التباطؤ في الإعلان عن موقف المؤسسة الدينية. ففي مثل هذه القضايا الكبيرة، التي تبلغ فيها الحساسية درجة المس بالإطار الدستوري، وما يرتبط به من إمارة المؤمنين ووظائفها، فإن الخلافات المفترضة سواء كانت شخصية أو مؤسسية، تتراجع إلى الوراء، ويعبر الجسد بكل مكوناته عن وحدة الموقف في مواجهة هذه الاستهدافات.
التيار الإسلامي، باستثناء بعض مكونات السلفية، كان حجم تفاعله باردا في الموضوع، ليس لأن فعاليته وقدرته على مواجهة هذه الدينامية محدودة، وليس لأن قضية المس بنظام الإرث لا تدخل ضمن أجندته، ولكن، ربما لتقدير عنده بأن انخراطه في هذه المعركة مطلوب من الجهات التي تحاول أن تحقق مكاسب في هذه المعركة، أو لتقدير آخر، يرى بأن خوض هذه المعركة في هذه الظروف يطرح علامات استفهام كثيرة حول خلفياتها، وما إذا كان القصد منها صرف اهتمام الرأي العام عن قضايا أخرى جوهرية، يعتبر نأي النخب عنها مطلوبا لإحداث تقدم آخر في موازين القوى لغير صالح القوى الديمقراطية في البلد، فيما البعض يرى أن دستور البلاد، ووظائف إمارة المؤمنين، يمنع الدولة من مسايرة هذه الطروحات، وأنه لا فائدة من الانخراط في معركة يعرف الجميع أن نهايتها سيكون بموقف حاسم للدولة ينحاز لقضايا المرجعية والهوية.
باستقصاء القضايا الجوهرية التي فرضت نفسها في السياق السياسي المغربي، نجد أن الأمر لا يتعدى بضع قضايا، منها التحديات التي يعيشها المغرب بخصوص نزاع الصحراء، وما يرتبط بقرار محكمة العدل الأوروبية بخصوص اتفاق الصيد البحري وموقف جنوب أفريقيا التي قررت محكمتها العليا بيع الفوسفات المغربي المشحون في سفينة مغربية في المزاد العلني، ومنها قضية محاكمة الصحفي توفيق بوعشرين، وما يرتبط ببعض تداعياتها الديمقراطية والحقوقية والسياسية، ومنها ما يرتبط بقضية بيع شركة "سهام" لشركة جنوب أفريقية، ودوافع الإعفاء المرتب لها من ضريبة التسجيل الذي فوّت أموالا كبيرة لن تدخل لخزينة البلاد، ومن كان وراء ترتيب هذا الإعفاء في قانون المالية 2018، ومنها قضية الترتيب الذي يجري على قدم وساق لتهيئ عزيز أخنوش، رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار، لرئاسة الحكومة بحدب وعطف من جهات في الدولة، ومنها قضية جرادة التي أثارت ردود فعل غاضبة من شكل التعاطي الأمني مع حراكها..
أن يكون الموضوع مرتبطا بصرف الانتباه عن التحديات التي يعرفها المغرب في ملف نزاع الصحراء. الأمر مستبعد، فالمغرب سبق له أن واجه مثل هذه التحديات بنفس السيناريو تقريبا، إضافة إلى أن المفوضية الأوروبية أوصت بتجديد اتفاق الصيد البحري مع المغرب مع بعض الشروط دون أن تضطر لمسايرة قرار محكمة العدل الأوروبية في الموضوع، مما يعني أن يتجه البرلمان الأوربي لقرار مماثل للذي اختاره سنة 2016.
أن يكون الأمر مرتبطا بقضية محاكمة توفيق بوعشرين، فشيء وراد، لكن حجج إثبات ذلك ضعيفة، لا سيما وأن ثمة هوامش كبيرة لإدارة هذا الملف، سواء بتأجيل الجلسات، أو إعادة تكييف الملف ضمن مسار الجلسات، أو حتى التفاوض بشأنه. وما أثير في بعض القصاصات الخبرية من انزعاج مصادر قضائية من تضخيم التهم الموجهة للصحفي بوعشرين، يمكن أن يقرأ ضمن هذا السياق.
أما قضية بيع شركة سهام، والضجة التي أثيرت على شبهة تضارب المصالح في إقرار إعفاء ضريبي لم يفهم موضوعه إلا مع بيع هذه الشركة، فلا ينفصل عن دينامية تهيئ حزب التجمع الوطني للأحرار لتصدر المشهد السياسي، بحكم أن الوزيرين المستهدفين بهذه التهمة (وزير الاقتصاد والمالية ووزير الصناعة والتجارة) هما من قادة هذا الحزب.
أما قضية حراك جرادة، فيدخل ضمن نفس البوتقة، ذلك أن اندلاع الاحتجاج بها وبغيرها يعبر عن أزمة التوازن المجتمعي، واستمرار معادلة التوزيع غير العادل للثروة، واستفادة المحظوظين على حساب المهمشين والمقصيين من خارطة التنمية، أي أن استمرار الحراك بتداعياته الحقوقية والسياسية والاجتماعية؛ ينسف سيناريو إعداد رجال المال للإمساك بعصب السياسة في المغرب.
ولذلك، التفسير الذي يمكن أن يكون له بعض الوجاهة، أن يكون الدفع بموضوع إلغاء التعصيب في نظام الإرث، واستدراج الإسلاميين للانخراط في هذه المعركة في زمن إحجام المؤسسة الدينية عن إبداء أي موقف، مقصود لصرف انتباه الرأي العام عن أي قضية يمكن أن تؤثر على رمزية الحزب الأغلبي الذي يتم الاشتغال على تهييئه.
ما يرجح هذا التفسير؛ أن السيد عزيز أخنوش وحزبه لم يبديا أي موقف من هذه الدينامية، وهو الحزب الذي ينسب نفسه للمواقع الليبرالية، لكنه مع ذلك لم ينحز لمطالب إلغاء التعصيب في الإرث، مخافة أن يكون هذا الملف مكلفا له ومربكا لخياراته في التقدم في الخارطة الانتخابية.