صحافة إسرائيلية

مؤشرات ميدانية على تراجع قوة الردع الإسرائيلية

كشفت الحروب الأخيرة، عن الضعف الملحوظ والمتزايد في الروح المعنوية التي سكنت الأجيال الإسرائيلية- أ ف ب
كشفت الحروب الأخيرة، عن الضعف الملحوظ والمتزايد في الروح المعنوية التي سكنت الأجيال الإسرائيلية- أ ف ب

أصيبت قوة الردع الإسرائيلية في مقتل، من خلال شواهد ميدانية شهدتها الحروب الإسرائيلية ضد المقاومة الفلسطينية بين عامي 2008-2014، من أهمها:


هزت العمليات الاستشهادية للمقاومة الفلسطينية عمليا نظرية الأمن الداخلي الإسرائيلي، وجاء صاروخ القسام وغراد ليبدد الحلم نهائيا بأن يحارب الجيش الإسرائيلي من وراء الحدود، وتبقى الدولة في مأمن داخلي مطمئن، ومنذ انطلاق العمليات الاستشهادية في أوائل التسعينيات، بدأت تراود الإسرائيليين الشكوك في مفهوم "إسرائيل القلعة"، وفي قدرة الجيش الذي لم يستطع أن يحقق النصر الاستراتيجي الساحق.


وكشفت الحروب الأخيرة، عن الضعف الملحوظ والمتزايد في الروح المعنوية التي سكنت الأجيال الإسرائيلية، فلم يعد الجيل الجديد راغبا في القتال، ولذلك يقول المؤرخ بني موريس: ما هو جيد للفرد، ليس بجيد للمجموع، الإسرائيلي يريد فيلا وسيارة، والتطوع والتجنيد في صفوف الجيش أصبح حرفة وليس مهمة ذات رسالة كما كان عليه الوضع في الماضي. وبالتالي طرح السؤال بكل قسوة: هل المجتمع الإسرائيلي آخذ في الضعف واللين، إلى أن ينهار أمام المقاومة الإسلامية الكبرى؟


وانكشفت قوة الردع الإسرائيلية أمام المقاومة الفلسطينية من خلال هشاشة قدرتها الداخلية على الممانعة، وتآكل قدرتها العسكرية على الردع الذي بدا واضحا في التأييد الشعبي الإسرائيلي المتفاوت للانسحاب من غزة، وفكّ الارتباط عنها، والجدار الفاصل في الضفة الغربية الذي حمل في طياته اعترافا إسرائيليا بالعجز عن تحمل أثمان المقاومة، وما تحمله من أبعاد سياسية واقتصادية وديمغرافية تهدد الوجود الإسرائيلي.

 

اقرأ أيضا: ما رسائل المناورات العسكرية الدفاعية للقسام بغزة؟ (صور)


ويقول الدارسون الإسرائيليون للمقاومة الفلسطينية أنها تسوّق نفسها بشكل أساسي كقوة ردع استراتيجية في مواجهة إسرائيل، وبدرجة أقل كمنظمة تمارس قتالا تكتيكيا يوميا ضد هذه الدولة، علما بأنه فور اندلاع كل مواجهة، دأبت المقاومة الفلسطينية على إطلاق وعود بمفاجآت غير مسبوقة، وقابلها الجيش بتهديد ووعيد بـ"تكسير عظامها"، وهنا طرح الميدان عدة إجابات على هذا التحدي المعلن من الطرفين، ومنها:


أ‌- الصراع الدامي الذي نشب بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل يتسم بنظرية "عضّ الأصابع"؛ حيث حاول كل طرف إلحاق أكبر قدر من الضربات الموجعة بالطرف الآخر للإقرار بالقواعد الجديدة للعبة، مع إعلان إسرائيلي بالرغبة الجامحة للقضاء على حماس، لكنها لم تتمكن!


ب‌- هنا تطرح الأسئلة اللوجستية التي تسببت في خسارة إسرائيل لقوتها الردعية، مثل: كم مرة يتوجب التذكير أن الصدام بين جيش مسلح بطائرات "إف15" ودبابات المركافاه وبين تنظيم عصابات لن ينتهي بانتصار الجيش الضخم؟ لماذا يدخل الجيش الإسرائيلي معركة لم يستعد لها، ولم يُجهز نفسه لمواجهة تلك الكمية الكبيرة من قاذفات الصواريخ بصورة ناجعة؟ هل تراجع الردع الإسرائيلي بسبب نقص المعلومات الاستخبارية، أم لعدم وجود حلول لضرب المخابئ والمكامن الخفية؟ عدا عن ذلك، لماذا فشل الجيش مرة أخرى في مجال الحماية والتحصينات، خصوصا في تطوير منظومة مضادة للقذائف الصاروخية، وبناء الملاجئ الملائمة للحرب الطويلة؟


لقد تراجعت الأهداف الردعية الإسرائيلية من القضاء الكلي على المقاومة الفلسطينية، إلى الاكتفاء بالمطالبة بعودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، وبسط سيطرتها عليه‏، فأين ذهبت التهديدات بالقضاء على المقاومة وتجريدها من أسلحتها؟

 

اقرأ أيضا: ما هي أوجه الخلل الإسرائيلي في الحروب ضد الفلسطينيين؟


إن اللغة التي استخدمها قادة الجيش في بداية كل معركة تُبيّن التغيرات التي طرأت عليهم في نهايتها، فلم يعد الحديث عن "معركة وجها لوجه"، ولم يعودوا يعلنون "القضاء على العدو"، و"استئصال الغول"، بل اكتفوا بـ"التغلب عليه"، لأن أسلوب الكلام الذي يتحدث به قادة الجيش والساسة "مليء بالعجرفة"، والإعلانات القوية مثل "نحن سننتصر"! لم تعد تلائم مرحلة ما بعد انكسار القوة الرادعة!


لقد أعلن عدد من قادة الأمن الإسرائيلي، ومنهم داني ياتوم رئيس الموساد الأسبق، مدى الصعوبة التي تجدها الاستخبارات العسكرية في اختراق منظمات المقاومة الفلسطينية، واستبدال هذا الهدف الكبير بمحاولة إلحاق أضرار هنا وخدوش هناك.


وقال ياتوم: "يجب أن ندير معركة خبيثة ومحكمة؛ لأن مدى قدرتنا على حسمها، ترتبط بالخبث و"الشطارة"، يجب أن نعمل على قطع تواصل المعلومات، وخلق إحساس حقيقي أو وهمي بأن المنظمات الفلسطينية التي تفاخر بتماسكها التنظيمي، مخترقة كالمصفاة، وأن نجعل قادتها ينظرون بعين الشكّ لحراسهم، يجب أن نخلق إحساسا بعدم الأمان الجسدي، وعزل قيادة التنظيم، فالعزلة هي أمّ المخاوف، يجب أن نعمل على خلق صراعات داخلية، وأجواء خيانة، إذ لا توجد سكين أكثر مضاء وسُمّيّة من سكين الخيانة"!


وجاء مواصلة المقاومة الفلسطينية قصف سديروت وبئر السبع وأسدود وتل أبيب، ليشكل النقيض المطلق لما تسميه إسرائيل "الردع الماحق"، وهو شهادة مستمرة على الضعف الإسرائيلي، ورغم أن الغارات الجوية حققت بضعة إنجازات، لكنها لم تحقق الردع، وبات من الممكن إيقاع الأضرار بأمن إسرائيل.


وقد حدا تراجع الردع هذا بكبار المعلقين الإسرائيليين لانتقاد الأداء العسكري بقسوة بقولهم: كيف يمكن لدولة هزمت سبع دول عربية سنة 48، ودحرت ثلاثة جيوش عربية سنة 67 في غضون ستة أيام، تقف هذا الموقف المربك أمام التنظيمات الفلسطينية؟ من كان يُصدق أن تنظيم عصابات مكون من بضع آلاف من المقاتلين، يبلغ تعدادهم بالكاد تعداد الجنود في كتيبة ونصف في الجيش الإسرائيلي، ينجحون في شلّ نصف دولة بعمليات قصف يومية لعشرات ومئات الصواريخ يوميا، عن أي ردع يتحدث قادة الجيش؟

 

اقرأ أيضا: خبير عسكري: صواريخ غراد تهديد حقيقي للجبهة الداخلية الإسرائيلية


وصل القادة العسكريين والمسؤولين السياسيين لقناعة مفادها أن تحطيم قوة المقاومة الفلسطينية، وإبادة نموذجها هدف غير واقعي، وفي حين يصرّ بعض "المهووسين" كما يطلق عليهم، على وجوب كسر قوتها، وتحطيم نموذجها، فإن آخرين يرونه هدفا غير واقعي".


رؤوبين إيرليخ أحد المتخصصين العسكريين الإسرائيليين انتقد الأهداف الردعية الكبيرة بقوله: كل من يفكر بإزالة قدرات المنظمات الفلسطينية شخص غير واقعي، يجب التفكير بمصطلحات: ماذا يمكن إنجازه؟ المتاهة الفلسطينية تشدنا مرارا وتكرارا إليها، نحن نريد إخراج غزة من داخلنا أيضا، لكن غزة لا تدعنا نخرج؛ لأن الهدوء الذي ساد في السنوات الأخيرة بعد الانسحاب، كان نسبيا ومضللا، وتم خرقه عدة مرات، وأدى إلى جلوس منظمة مسلحة قبالة حدودنا الجنوبية، وجعلتنا ندفع ثمن ذلك اليوم.


السؤال الذي يطرحه قادة الجيش في غرفهم المغلقة: لماذا لا يتأثر الجنود بمنطق الجيش الذي يقيس قواته بكميات الفولاذ؟ الجواب أنه عندما تدور الحرب بلا تمييز، يفقد الردع مغزاه، والحرب في غزة لن تتمخض عن الردع، بل ستلد في أقصى الأحوال توازن رعب، كالذي كان قائما عشية اندلاع كل حرب، وسيضطر الجيش فيه لإعادة التأكد مما يُعبر عنه الإسرائيليون في الملاجئ، لأنه بعد فترة قصيرة ستعبر آلاف العائلات، عن يأسها وازدرائها من هذا الوضع، لأنهم باتوا يشعرون أن رقابهم أمسكها عناصر حماس!


أوهام كثيرة تبددت في هذه الحروب، ومنها ضربات إسرائيل الردعية، وفي عملية التخلص من كل ما هو غير حقيقي وواقعي، يتوجب الخلاص من الزيف التاريخي المسمى "الجبهة الداخلية القوية"، لأن اعتبار العمق الداخلي جبهة، كان استراتيجية خاطئة منذ البداية، لأن الجيش هو جيش الشعب، لكن الشعب ليس الجيش، الذي يتركز دوره في إبعاد الخطر عن الجبهة الداخلية، ودور الدولة يكمن في إبعاد حدودها عن ساحة المعركة، على الجنود أن يخوضوا المخاطر في الجبهة، وعلى الدولة بذل كل ما بوسعها للحفاظ على حياة الإنسان في العمق الداخلي.


وهكذا وصلت درجة تدهور القوة الردعية لهذه الجبهة الداخلية، التي دفعت "ثمن التردد" الحاصل من قبل الجيش والحكومة على حدٍّ سواء، وبالتالي بدأ الإسرائيليون -بقدر كبير- يرون الفجوة بين إنجازات الجيش "المعلنة" على الأرض، وبين الإحساس العام بالفشل، لاسيّما بعد انقضاء أيام معدودة من المحاولة الفاشلة لحسم المعركة من الجو فقط.


وبالتالي لا يمكن الاكتفاء بالأقوال التي تهدف لرفع الروح المعنوية عن الإنجازات الوهمية، في الوقت الذي يثبت فيه الفلسطينيون أنه لا يوجد أي شيء يردعهم عن مواصلة الهجمات على إسرائيل، خاصة وأن أحد الأهداف الأساسية لهذه الحروب المتمثل بمنع مواصلة إطلاق الصواريخ، لم يتمّ إنجازه أبدا!


أخيرا.. من أجل التأكد من تهاوي قوة الردع الإسرائيلية أمام الفلسطينيين، كان كافيا النظر لقسمات وجوه جنود لواء "غولاني" الذين عادوا من ساحة المعركة لإدراك مدى صعوبة ما واجهوه، وبعد أن أخذوا قسطا من الراحة، وتفرغوا للاتصال بالعائلة وإبلاغها أنهم عادوا من الميدان، تبين أن هؤلاء الجنود الذين كانوا شبابا في مقتبل العمر، شاخوا بين ليلة وضحاها، كانوا مرهقين ومكتئبين وصامتين، وعندما حاول الصحفيون دفعهم للحديث رفضوا التعاون، ليس لأنهم غاضبون من فضول الصحافة وإلحاحها، بل لاعتقادهم أن الكلمات لا تستطيع وصف ما حدث في تلك المعارك التي أوقعت في صفوفهم عددا كبيرا من الضحايا بين قتيل وجريح، وبالتالي لم يعودوا يرون معنى حقيقيا لشعارات "الردع" التي قرؤوها في الكراسات العسكرية.

التعليقات (0)