الحقيقة أنني أتفهم غضب الأمهات اللواتي شاهدتهن في ذلك المقطع يتظاهرن أمام إحدى المدارس وعلى وجوههن ارتسمت تعبيرات الغضب، فهذا حقهن بكل تأكيد، ولكن أثارت بعض اللافتات استغرابي.
إحداهن كتبت على لافتة مخاطبة وزير
التعليم الانقلابي: (من حق ابني أن يتعلم
اللغة الإنجليزية).
تذكرت وأنا أقرأ تلك اللافتة الغاضبة أن عسكري الانقلاب افتتح أول زياراته للولايات المتحدة بجملة (سانك يو)، التي أثارت ردود أفعال ساخرة وقتها.
ورغم أنني لم أستطع الاقتناع بالتفسير الذي تناقلته بعض الصحف الانقلابية عن (تعريب التعليم)، ولا أعتقد أن أحدا اقنتع به، إلا أنني لم أستطع التوصل للهدف من إلغائها، خصوصا مع بقاء مصروفات المدارس دون أي تخفيض.
وذلك رغم قناعتي أن فكرة إلغاء المدارس التجريبية لابد أن تكون وفق أجندة ما.
لكن النتيجة المباشرة التي ربما تنتج من القرار، أن تكون مدارس اللغات ذات المصروفات الأعلى هي الوحيدة التي تمنح تعليما بالإنجليزية في
مصر، في مقابل مدارس حكومية لا تمنح أي شيء، وفي منتصف المسافة بينهما تقع مدارس تجريبية (نُزعت منها الميزة الوحيدة التي كان يراها الأهالي) وهي أن تكون بديلا اقتصاديا لمدارس اللغات.
بعد انقلاب تموز/ يوليو 1952، جرى نشر الفكر الاشتراكي في مصر تحت رعاية ضباط الانقلاب، ومعه جاءت شعارات المرحلة كالقضاء على الإقطاع والعدالة الاجتماعية، وغير ذلك من الجمل الرنانة، وتحولت سياسة تصفية الحسابات إلى طابع المرحلة، فكان عقدا الخمسينيات والستينيات جحيما حقيقيا.
ومع عدم وجود تعريفات واضحة لكلمة (الإقطاع)، كانت السياسات التي تبناها الضباط بمثابة ضوء أخضر للمجتمع، ليتصارع مع نفسه، وليمزق نفسه تحت راية الاشتراكية التي تستهدف (الإقطاع).
كانت الطبقة الحاكمة تعيش بطبيعة الحال حياة بذخ، تختلف عن أجواء الصورة الإعلامية التي كان الإعلام يغرسها في عقول الشعب، الذي جرى إفقاره.
في مجتمع كهذا، تعود لمدة عقدين على ممارسات الاشتراكية وخطابها وعلى مفردات مثل الطبقة العاملة والعدالة الاجتماعية، والقضاء على الإقطاع, إلى آخر تلك المفردات، وكان ما يسمى بسياسة الانفتاح كارثة مجتمعية حقيقية.
الانتقال الفجائي من حالة سياسات التجويع والإفقار التي استمرت عقدين إلى سياسات توفير السلع الاستهلاكية في مجتمع يتعطش للأساسيات.
والنتيجة الطبيعية لتوفير السلع الاستهلاكية في مجتمع كهذا، إثارة النزعات الاستهلاكية، وإيقاظ الأطماع الشخصية، وإثارة جو من التطاحن، وكل ما يمكن أن يقوله علماء الاجتماع السياسي عن نقلة فجائية من الاشتراكية إلى الرأسمالية.
وكانت النتيجة توحش المجتمع ضد بعضه البعض، وانتشار السلوكيات الاستهلاكية، وخلق جو من المنافسة غير المحكومة بسقف من دين أو أخلاق.
وفي أجواء كهذه، يتحول الفساد إلى وحش يبتلع كل شيء، وتنبت الرشوة والمحسوبية وتتسع الفوارق بين الناس وتنهار الطبقة الوسطى، ويتحول المجتمع إلى معسكرين متقاتلين، أغنياء وفقراء فقط.
حالة من التوحش التام يحاول فيها طرف حماية مكاسبه بأي طريقة بينما يسعى الطرف الآخر بكل السبل لاقتناص أي مكاسب.
التعليم في مصر يحتاج في نظري إلى ما هو أكبر من مجرد وزير يحاول تغيير مناهج أو يلغي سنة دراسية ليضيف أخرى في مرحلة أخرى.
التعليم في نظري يحتاج إلى إعادة ترتيب على أسس مغايرة للأسس الحالية، لكن حتى ذلك الحين، فإن الصراع المجتمعي إحدى النتائج التي أراها لقرار إلغاء المدارس التجريبية، التي كانت ربما تمثل صمام أمان بين عالمين متنافرين, عالم المدارس الحكومية وعالم مدارس اللغات.