ليس ثمة شك في أن من أكبر تحديات الألفية الجديدة تلك الفجوة المعرفية المُهولة التي وسِمت البلاد العربية، قياساً مع غيرها من أقطار المعمور. ففي العديد من استطلاعات الرأي ذات العلاقة، والتقارير الدولية الصادرة عن جامعات عالمية مرموقة، ومراكز بحوث مشهود لها بالجدية والجودة، تؤشر مراتب البلاد العربية في سُلّم المعرفة إلى أن هناك فجوة حقيقية بينها وبين ما وصلت إليه الكثير من الدول، وأن ثمة مخاطر إن استمر هذا الواقع جاثماً على صدور الأجيال المتعاقبة، بل إن الحاجة أكثر من ماسة إلى التفكير والعمل بجدية من أجل ردم هذه الفجوة، أو على الأقل تقليصها تدريجيا بأفق تجاوزها إيجابيا.
نُذكّر بأن تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2002"، الذي كُتِبت فصولُه بأقلام عربية، كان مُحقاً حين خَلُصَ إلى أن أكبر النقائص وأعمقها في البلاد العربية تكمن في العجز الحاصل في مجالات "المعرفة والحرية وتمكين المرأة"، ولعله كان متوفقاً، إلى حد بعيد، في تشخيص الفجوة المعرفية في تقريره الثاني لسنة 2003. فمن أبرز ما أشار إليه تشديده على أنه رغم ازدياد عدد الكتب المترجمة إلى العربية من 175 عنواناً خلال فترة 1970-1975، فإن ذلك لم يتجاوز خُمُسَ ما ترجمته اليونان على سبيل المثال. وإذا كان التقدير الإجمالي للكنب المترجمة إلى العربية منذ تأسيس "بين الحكمة" على عهد الخليفة العباسي "المأمون" وحتى كتابة التقرير (2002)؛ قد وصل إلى عشرة آلاف كتاب، فإن ما ترجمته إسبانيا خلال سنة 1999 وحدها تجاوز هذا الرقم. يُضاف إلى ذلك، أن متوسط الكتب المترجمة لكل مليون من سكان الوطن العربي لا يتعدى 4.4 كتاب، أي أقل من كتاب واحد في السنة لكل مليون عربي، بينما بلغ المعدل 519 كتاباً في المجر، و920 كتاباً في إسبانيا. أما وتيرة نشر البحوث، فتُقدر بـ26 بحثاً بكل مليون فرد في العالم، مقابل 840 في فرنسا، و1252 في هولندا، و1878 في سويسرا. والملاحظة نفسها تنسحب على النشاط العلمي، حيث ما زالت البلاد العربية بعيدة عن الدُّنُوِّ من إدراك المعدلات المنجزة في مجمل الدول الأوروبية والغربية.
ليس قدر الأمة العربية أن تبقى سجينة هذا الواقع الموسوم بانحسار الفكر والثقافة والمساهمة الفعالة في العطاء الحضاري المشترك، بل أفُقُها أن تنخرط في دينامية إنتاج المعرفة ونشرها وتجديدها، غير أن ذلك رهين بمدى قدرتها على إعادة صياغة منظورات جديدة لنظام المعرفة المطلوب والمنشود. فمن الخطوات العملية المتدرجة على هذا السبيل إطلاق حريات الرأي والتعبير والاجتهاد على الصعيد النظري والفكري، بيد أن ذلك لصيق بدوره بالعديد من المتطلبات من قبيل تجديد النظم التربوية، والنهوض بالتعليم في مختلف مراحله وأسلاكه، وإيلاء عناية خاصة لتعليم الأطفال، وتوطين العلم وبناء القُدُرات الذاتية للبحث العلمي، وتوظيف المعرفة لتشييد اقتصاد عربي جديد، بُغية الوصول إلى إقامة نظام معرفي أصيل يتخلص من عملية الإقتباس السهل لمقولات من الشرق والغرب، وينشُد لنفسه أفقاً متحرراً ومستقلاً.
مَقصدُ القول أنه رغم المعوقات التي تحول دون نشر المعرفة في الوطن العربي، هناك عوامل إيجابية يمكن الارتكاز عليها للإنطلاق نحو إقامة مجتمع المعرفة ونشر ثقافة التغيير والعلوم العصرية، والتكنولوجيات المتطورة. فالمسألة تكمن في مدى استفادة الأنظمة والمؤسسات العربية الرسمية والخاصة من الطاقات البشرية الكبيرة المتواجدة الآن داخل البلاد العربية وخارجها، فسكان الوطن العربي تجاوزوا 300 مليون نسمة، وقد يصل عددهم إلى 400 مليون عام 2025، الأمر الذي يستلزم استراتيجية واضحة ومتجددة لنشر المعرفة عبر إطلاق مشاريع ثقافية وإنمائية مشتركة بين الدول العربية، بالاستفادة من الموارد الطبيعية العربية الهائلة، كالنفط والغاز والمعادن الطبيعية. أما بخصوص التكنولوجيا المتطورة، فيمكن الاستفادة من خبرات الشعوب التي أنجزت الكثير من التقدم، دون التفريط في ما له صلة بتراثها وشخصيتها القومية. فمن اللافت للانتباه، أن ضغوط العولمة، بصيغتها الغربية اليوم، تكرس السيطرة بالقوة والعنف على مُقدرات العالم في مختلف المجالات، ومنها وسائل نشر المعرفة، كما أنها تقود نظاماً عالمياً "جديداً" غير متوازن، يمنع الدول من التقدم الإنساني، ويحرمها من فرص الولوج إلى شروط الحداثة الذاتية المستقلة.
والأكثر مفارقةً في هذا السياق، أن رغم المحاولات التي قامت بها البلاد العربية لنشر المعرفة، أسوةً بغيرها من الدول المتطورة، لم يحالفها النجاح، حيث لعبت عوامل متعددة أدواراً سلبية ًحاسمةً في ترتيب واقع الإخفاق، لعل أبرزها ضعف الحرية وسَقَم عود الديمقراطية في المجال العربي، وصعوبة استنبات مقومات الحكامة الجيدة في الممارسة السياسية العربية. الدليل على ذلك، استعصاء قيام مراكز البحوث العربية بالمهام المنوطة بها في مجالات الإنتاج العلمي والمعرفي، والمساهمة في تكوين نخبة عربية رائدة على صعيد التفكير والاجتهاد والتناظر مع غيرها من النخبات على الصعيد الدولي، علما أن قطاعاً واسعا منها تمكن من الاندماج كأفراد في بنيات الإنتاج المعرفي لدول أجنبية خارج البلاد العربية.. يحتاج الأمر إذن إلى خطوات عميقة وجريئة لبناء نظام معرفة قادر على تحصين الهوية والتفاعل الإيجابي مع تحديات العولمة، وهي كثيرة ومتزايدة.