قبل الموجة الأولى من الثورات العربية؛ كان من المعتاد أن تعلن القوى الشعبية عن تضامنها مع الشعب
الفلسطيني، والمؤكد أنه في العقود السابقة للثورة المضادة العربية كان القلق من خروج الجماهير وتجمعها بالشوارع بأعداد غفيرة هاجسا مزعجا، أيضا كان أحد عوامل اتخاذ القرار قبل أي فعل سواء ضد فلسطين أو غيرها من الشعوب. ونتذكر ما حدث أثناء غزو العراق والحروب الصهيونية ضد قطاع غزة ومناضليه قبل التمكن المرحلي للثورة المضادة من مقاليد الأمور في بلادنا، فقد كانت ردة الفعل الشعبية عاملا مقيدا للقرار قبل اتخاذه.
ماذا حدث إذن؟ ولماذا هبط رد الفعل إلى الصفر بعد الثورات المضادة؟ هل اختفت الشعوب أم أن قضية القدس والشعب الفلسطيني البطل لم تعد تشغل بال أحد؟
إن الخوف من هاجس ما يظل ملازما لصاحبه حتى يتمكن من تجاوزه. فمثلا، كل من لم يمارس القفز بالمظلة يشعر أنه سيهبط جثة هامدة لا محالة إذا قام بذلك العمل المجنون، إلا أن هذا الهاجس ينتهي بعد أول تجربة عملية، وربما يتحول الأمر بعد ذلك لأمر ممتع، ويمكن إسقاط ذلك على أكثر الأمور تعقيدا وخطورة. وهناك مسار آخر غير القيام بالعمل، فإذا قمت بعمل تخشاه رغما عنك ووجدت خطورة حقيقية منه، فيكون منع أي احتمال لتكراره هو هدفك الاستراتيجي، ويبدو أن هذا ما قامت به أنظمة الثورة المضادة.
لقد جابهت الثورة المضادة أكبر تجمعات بشرية في الشارع في تاريخ دول المنطقة، واستطاعت بطرق متنوعة ليس هذا مجالها أن تتجاوز هذا العمل الكبير. وبالتبعية، فككت المجال الذي يمكن به إعادة المشهد، ولم تقم بذلك فقط، بل قامت بالتمهيد النيراني لأرض المعركة بعدة مسارات:
أولا: القضاء التام على الشبكات والتنظيمات المجتمعية التي يمكنها تجميع الجماهير لنصرة أي قضية قد تختلف بها مع النظام. فبعد الموجة الأولى من الثورة، أغرت الأوضاع الكثيرين للخروج فوق سطح الأرض، مما جعل الأمر أكثر سهولة بالنسبة للثورة المضادة. وهذا أحد تكتيكات الحروب لإظهار العدو، وذلك بإغرائه بانتصار سهل، فاستطاعت الثورة المضادة بذلك القضاء أو على الأقل الإضعاف الشديد للكيانات المجتمعية، مما يؤدي لاحقا إلى استحالة بناء عمل احتجاجي في الشارع. ويبقى فقط احتمال الطوفان الغاضب، وهذا يحتاج لوقت طويل وضغط غير عادي نسير إليه حثيثا.
ثانيا: الدفاع المشوه عن القضية بواسطة رموز مصنعة، فما وجدناه من غالب كبار
القوميين المصريين والعرب يتنافى تماما مع ما كانوا يدعون إليه، أو هكذا يبدو لي. فقد سكتت كافة الأصوات، مما قد يشير أنها أصوات مصنوعة من قبل الأنظمة لاستخدامها في وقت ما لدفن القضايا، أو على أقل تقدير هي أصوات مخادعة ليس لها مكان حقيقي، إلا أن هذا الفعل بعدما يصيبنا بالصدمة، تجد الجماهير نفسها بدون الصوت الهادر الذي كانت تجتمع وتتحرك خلفه، بل أصبح هذا الصوت يعزف على أنغام الصهاينة في كثير من المقاطع.
ثالثا: استخدام وسائلها لصناعة الوعي لتدمير الوعي العام لصالحها، وذلك بتشويه المقاومة والمقاومين وقضايا النضال، وخاصة القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني.
إن سلطات النظم العربية وخاصة ما بعد التمكن المرحلي للثورة المضادة هي صهيونية تماما أو على أقل تقدير لم تعد تجد حام لها غير الصهيونية ودولها، ولذلك فقد تغيرت قواعد اللعبة، فلم تعد مظاهر العداء مع الصهاينة تجدي، كما لم تعد ترك مساحات للتحرك وتنفيس الغضب صالحة للمرحلة الجديدة، كما لم تعد قصة النظام الدولي ومؤسساته لها قيمة، فالمرحلة القديمة كانت تحتاج لذلك في فترة ما، أما الآن فكل ذلك لا داعي له، فالوجوه واضحة، والسلاح مصوب، والقوى المجتمعية أصبحت تحت حصار كبير، والجماهير تبعثرت بين عقول دمرتها الأنظمة وأصبحت بوعي أو بدون وعي متصهينة وخائنة، وجزء آخر لم يعد يدري ماذا يفعل ودخل في دوامة القلق والتردد والإحساس بالهزيمة والدونية، وجزء ثالث انسحب من المشهد العام وينتظر ماذا يخبئ له المستقبل، ولا يمتلك من الأدوات ما يمكنه من الدفاع حتى بالتظاهر عما كان يدافع عنه سابقا.
في كل هذه الفوضى؛ يبقى الشعب الفلسطيني في البقعة الوحيدة الحرة يدافع عما تبقى من الأمل، ولا ينبغي أن يتركوا وحدهم، بل من الضروري وسط كل هذه الضغوط أن تحاول الجماهير إعادة بناء نفسها ولكن طبقا لقواعد اللعبة الجديدة. ربما يستنزف هذا وقتا وجهدا وخاصة في ظل قلة وجود كوادر مجهزة للعمل من الجماهير، إلا أن القناعة أننا في مرحلة شديدة الخطورة على وجودنا، قد تحفز الكثيرين للعمل تحت هذا الضغط الكبير من أجل بناء مناطق محررة أخرى وسط المحيط العربي المحتل.
كل الأمور صعبة... ربما، ولكن يبقى الحل بيد الجماهير التي أدركت أن قواعد اللعبة قد تغيرت وعلينا العمل وفقا لذلك.