قدمت الأحزاب السياسية في
تركيا لوائحها النهائية للهيئة العليا للانتخابات، وسيقوم كل حزب سياسي في الأيام القريبة القادمة بالإعلان عن برنامجه الانتخابي بشكل مفصل، والتعريف بمرشحيه لمجلس الأمة الكبير للدورة القادمة.
حزب
العدالة والتنمية الحاكم قدم 600 مرشح (بعدد مقاعد البرلمان)، منهم 126 امرأة، و57 مرشحا أعمارهم دون سن الخامسة والعشرين، ومرشحة واحدة عمرها 18 عاما، وثمانية مرشحين من ذوي الاحتياجات الخاصة. ونصف أعضاء البرلمان الحاليين فقط تم ترشيحهم مجددا.
بن علي يلدرم آخر رئيس وزراء في تاريخ تركيا الحديث، إذ لا يوجد منصب رئيس وزراء الدستور الجديد، تم ترشيحه عن مدينه إزمير. وغالبية الوزراء الحاليين، في مقدمتهم وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو، ووزير الدفاع نور الدين جانيكلي، ووزير الطاقة برات ألبيرق صهر الرئيس أردوغان، ووزير الري الذي حافظ على كرسيه منذ 16 عاما، ووزير الزراعة والغابات، تم ترشيحهم لنيابة البرلمان.
ترشيح الوزراء الحاليين لنيابة البرلمان معناه فقدهم لمناصبهم الوزارية، واستبدالهم بغيرهم؛ لأن الدستور الجديد ينص على فقدان الوزير لمقعده في البرلمان عند تعيينه وزيرا، ومن غير المعقول التخلي عن مقعد في البرلمان مسبقا.
ترشيح حزب العدالة والتنمية لغالبية أعضاء كابينته الوزارية الحالية، يشير بوضوح إلى حملة تغييرات جذرية تنتظر حزب العدالة والتنمية. أهم إرهاصات هذه التغييرات العميقة، استبعاد بعض الشخصيات الفاعلة من قوائم ترشيحات البرلمان، لأجل تكليفها بوظائف في الحكومة، أو البلديات، أو منظومة الحزب، حيث جميع هذه المجالات بحاجة لضخ دماء جديدة، وكوادر صاعدة، وتغييرات حقيقية، وهذا ما أشار إليه الرئيس أردوغان بتعبير" كلل المعدن".
ترشيح أرطغرل توركاش أكد مرة أخرى على التزام حزب العدالة والتنمية بوعوده ووفائه بالعهود، لكن ترشيح وزير الثقافة البرفيسور نعمان قورتولموش للبرلمان جاء مفاجئا بعض الشيء، إذ كان ينظر إليه كخليفة لأردوغان في قيادة حزب العدالة والتنمية.
حزب المعارضة الأم، حزب الشعب الجمهوري هو الآخر قدم 600 مرشح، 70 منهم من النواب الحاليين، 126 من النساء. وبينما ترشح رئيسه كمال كليجدار أوغلو عن مدينة إزمير، منافسا لرئيس الوزراء بن علي يلدرم، برز عبد اللطيف شنار (أحد مؤسسي حزب العدالة والتنمية، ووزير الاقتصاد في حكومة نجم الدين أربكان، الذي استقال من حزب العدالة والتنمية عام 2007)، مرشحا لحزب الشعب الجمهوري عن مدينة قونيا المحافظة.
كما رشح حزب الشعب الجمهوري النواب الخمسة عشر الذين تمت إعارتهم لحزب "إيي"، ثم عادوا للحزب بعد فشل الاتفاق بين الحزبين على مرشح رئاسي مشترك. جميعهم تم ترشيحهم على قوائم الحزب.
ترشيح الرئيس السابق دنيز بايكال عن مدينة أنطاليا رغم وضعه الصحي الحرج، دليل وفاء ومراعاة للتوازنات داخل الحزب.
الوجود العربي في تركيا
تحتضن تركيا تجمعات عربية كبيرة من مختلف دول العالم
العربي، منهم من لجأ إليها هربا من الحروب، ومنهم بسبب السجن والتعذيب نتيجة الاضطهاد السياسي، ومنهم رجال أعمال جاؤوا مستثمرين، أو سائحين أو طلابا للدراسة، حيث يتوزعون على غالبية المدن التركية، قادمين من سوريا، ومصر، واليمن، والعراق، وفلسطين، وغيرها من الدول العربية.
من الصعب الحديث عما يسمى بـ"الجالية العربية في تركيا" بالمعنى الكامل لمصطلح الجالية، لكن كثيرا من هؤلاء الوافدين حققوا وجودا رسميا فاعلا في تركيا، واستطاعوا دخول جميع الفعاليات التجارية والصناعة والسياحية والخدمية.
لا يمكن الحديث عن نشاط سياسي تميز به أعضاء الجاليات العربية في تركيا. ربما بسبب ضعف الاندماج في المجتمع التركي، أو بسبب اشتغال الناشطين منهم بقضاياهم في بلدانهم الأصلية، السوري بالقضية السورية، والفلسطيني بالقضية الفلسطينية، واليمني بقضيته. وهلم جرا..
مقابل ذلك، هناك كثير من العرب الذين استوطنوا واستقروا في تركيا منذ عشرات السنين، وأصبحت تركيا بالنسبة لهم موطنا أصليا، وليس وطنا ثانيا، سواء من خلال علاقات القرابة والنسب والمصاهرة، أو بسبب انخراطهم في سوق الاستثمار والأعمال.
وهناك كفاءات علمية وشخصيات أكاديمية. إذ يشكل الأكاديميون والتدريسيون العرب في الجامعات ومؤسسات التعليم التركية؛ رقما لا يستهان به (ما يقارب العشرة في المئة من مجموع الأكاديميين في تركيا).
ما إن تم الإعلان عن قوائم أسماء المرشحين، حتى اتجهت الأنظار لقائمة مرشحي حزب العدالة والتنمية الحاكم، رائد الانفتاح على العالم العربي، حيث كان من المنتظر أن يرشح اسما أو اسمين على قوائمه، من الكفاءات أو الشخصيات العربية المستوطنة، قديما على الأقل.
بالنظر لوجود ما يقارب الستة ملايين من العرب، القدامى منهم وحديثي العهد، فإن مصلحة تركيا قبل كل شيء، تقتضي تمثيلا لهؤلاء في مجلس البرلمان التركي. تماما مثل إخوانهم الأتراك في أوروبا الذين بدأوا يتبؤون أعلى المناصب في الدول التي استوطنوها. بل إن رقي الدول ونمو ديمقراطيتها مقرون بعدد ما تتيحه لشخصيات من انتماءات عرقية وإثنية مختلفة أو وافدة، من مشاركة سياسية. أكبر دليل على ذلك، أمريكا الدولة العظمى التي تدير العالم، ثم إنكلترا التي أثرت النظام الديمقراطي بنماذج راقية فريدة في إشراك الآخر بالقيادة وإدارة الدولة.
أسباب غياب الأسماء من أصول عربية عن قوائم المرشحين
ثمة أسباب عديدة حالت دون ترشيح شخصيات من أصول عربية، منها الخوف من التأثير السلبي على أصوات الحزب، بسبب التوظيف المغرض من طرف أحزاب المعارضة التي تطالب بطرد الأجانب أصلا، بالإضافة إلى استغلال الإعلام المعارض الذي يتحين الفرص، ويتربص حوادث من هذا النوع، ليثير الرأي العام، بحجة أن الأجانب سوف يتولون إدارة الدولة التركية، خصوصا مع ارتفاع وتيرة الحس القومي في الآونة الأخيرة.
من الأسباب أيضا، عزوف الشخصيات من أصول عربية عن المشاركة السياسية النشطة الفاعلة في الأيام العادية. وهذا يؤدي إلى جهلها من قبل الناخب التركي، مما يجعل عملية ترشيحها مخاطرة مجهولة العواقب بالنسبة للأحزاب السياسية.
كما تتميز هذه الدورة الانتخابية بأنها منعطف حساس، ونقطة تحول في تاريخ تركيا الحديث. إذ تشكيلة البرلمان القادمة إما أن تسمح بإقرار التعديلات الدستورية، أو تعود تركيا لأيام النظام البرلماني والحكومات الائتلافية، وحالة الاضطرابات والأزمات السياسية.
لا زالت حالة الاستقطاب السياسي في أوجها، والفوارق بسيطة جدا بين معسكر السلطة، المؤلف من حزب العدالة والتنمية الحاكم وحليفيه حزب الحركة القومي وحزب الاتحاد الكبير، من جهة، وبقية أحزاب المعارضة في الجهة المقابلة، وأي خطأ سيكون ثمنه باهظا.
تتبع أحزاب المعارضة استراتيجية خطيرة، تقضي بتمرير انتخاب الرئيس أردوغان لولاية ثانية بطريقة سلسة مريحة. مقابل حصولها، أي المعارضة، على أغلبية في البرلمان تجعل الرئيس تحت طائلة التهديد بالعزل، أو عرقلة عمل حكومته. إذ انتشرت في الأيام الأخيرة مقولة: نعم لأردوغان رئيسا، لكن لا لحزبه في البرلمان.
أيا كانت الظروف والأسباب والمسوغات، فإن غياب ممثلين عن كتلة بشرية موجودة داخل المجتمع التركي، تعدادها يفوق ستة ملايين نسمة، نقص كبير، وخطأ فادح، وثلمة في مسيرة الديمقراطية التركية.
تركيا كانت ولا تزال النموذج الوحيد الذي تحتذي به شعوب المنطقة. وحزب العدالة والتنمية، رائد الانفتاح والتغيير والتجديد، الذي قدم تجربة رائدة ثرية شكلت مصدر إلهام للشعوب والنخب على طريق التفاني في العمل وخدمة الأوطان، عجز هذه المرة عن تقديم ما كان منتظرا منه، من إعطاء النموذج القدوة الجريء.