نشرت مجلة "
فورين أفيرز" مقالا للكاتب
محمد البازي، حول التحول الذي مر به رجل الدين الشيعي مقتدى
الصدر، الذي وصفه حاكم
العراق الأمريكي بول بريمر بأنه "خارج عن القانون"، ووصفه الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن بأنه عدو أمريكا.
ويشير البازي في مقاله، الذي ترجمته "
عربي21"، إلى أن الصدر وجهت له تهمة عام 2004؛ بالوقوف وراء اغتيال رجل دين شيعي منافس في النجف، وهي أقدس مدينة بالنسبة للطائفة الشيعية، وصدرت بحقه مذكرة توقيف، لافتا إلى أن الصدر اختفى في الوقت الذي كانت فيه مليشياته تقاتل الأمريكيين في جنوب العراق وفي بغداد، وفي عام 2006 وصفته "نيوزويك" على غلافها بأنه "أخطر رجل في العراق".
ويذكر الكاتب أنه "في 12 أيار/ مايو أجريت انتخابات في العراق، وخرج الصدر مبتسما بلحيته التي غلب عليها الشيب، ورفع سبابة يده اليمنى ليظهر أنه أدلى بصوته، فيما كان يحمل علما عراقيا في يده اليسرى".
ويعلق البازي قائلا إنه "بالمقارنة بين الصورتين، فإنه يمكن تخيل مدى التحول في النظرة لدى الصدر على مدى العقد الماضي، حيث تحول من قائد مليشيا طائفية، أشرف فيها على قتل آلاف العراقيين، إلى زعيم شعبوي قومي يحارب الفساد، ويضم تحالف الصدر مزيجا من الإسلاميين الشيعة والحزب الشيوعي والناشطين العلمانيين ورجال الأعمال السنة، كسب في الانتخابات 54 مقعدا من أصل 329، فهو يحتاج إلى 165 مقعدا آخر لتعيين رئيس للوزراء وتشكيل حكومة".
ويفيد الكاتب بأن "فوز الصدر فاجأ كلا من أمريكا وإيران والسعودية، وحتى الكثير من العراقيين، ففي منطقة تعاني من الحروب، ويسيطر عليها الملوك والرجال الأقوياء، فإن الانتخابات كانت إضافة مرحبا بها: انتخابات حرة ونزيهة نسبيا في العالم العربي، حيث لم تكن النتائج قد حددت مسبقا، وظهر أنه في هذه الانتخابات حلت الشعبوية محل الطائفية في السياسة العراقية".
ويستدرك البازي بأن "الانتخابات لم تحدث زلزالا سيغير السياسة العراقية، التي تعاني من الفساد والقصور والتدخل الخارجي، وفي الواقع فإن هذه الأمراض ساعدت الصدر على الفوز؛ وكان إحباط الناس من الطبقة السياسية أدى إلى أقل نسبة مشاركة في الانتخابات (44%)، منذ أول انتخابات تمت عام 2005، ولم تقل هذه النسبة في الانتخابات السابقة عن 60%".
ويلفت الكاتب إلى أن "تدني نسبة المصوتين عمل لصالح الصدر، فإن حركته، كغيرها من الحركات الإسلامية في الشرق الأوسط، بنت مؤسسة سياسية واجتماعية كبيرة قادرة على حشد الأصوات، بالإضافة إلى أن الصدر نجح في إخراج نفسه بصفته قوميا عراقيا يدعم حكومة بكفاءات ويحارب الفساد المستفحل، وكانت التهم بالفساد أصابت بعض أعضاء كتلته البرلمانية؛ ولذلك منع 34 عضو برلمان من كتلته البرلمانية من الترشح ثانية، وكان ذلك مؤشرا على عزم الصدر على مكافحة الفساد، كما أن أكبر مرجع شيعي في العراق آية الله علي السيستاني حث في بداية أيار/ مايو الناس على عدم التصويت على أسس طائفية، وقال للمصوتين إنه لا ينسب أيا من الأحزاب أو المرشحين".
ويقول البازي إنه "منذ صدور النتائج في منتصف شهر أيار/ مايو، فإنه تم دفع الصدر لأن يكون هو صانع الملوك، يفاوض للتوصل إلى ائتلاف حكم مع الكتل البرلمانية الأخرى، وأشار إلى أن حليفه على الأغلب سيكون رئيس الوزراء حيدر العبادي، الذي كان يتوقع أن يفوز حزبه في الانتخابات، لكنه جاء في المرتبة الثالثة، بالإضافة إلى أن الصدر قابل هادي العامري، الذي فاز تحالفه المرتبط بالحشد الشعبي بالمرتبة الثانية".
ويجد الكاتب أن "المناورات السياسية لتشكيل حكومة جديدة ستكون أمرا صعبا، وأحد الأسباب هو أن الأحزاب السياسية العراقية والسياسيين لهم مصلحة متجذرة في الحفاظ على نظام المحاصصة الطائفية، حيث يتم تقاسم الوزارات وما يرتبط بها، بالإضافة إلى أن النظام قابل للتدخل الخارجي، خاصة من
إيران، وبشكل أقل من أمريكا، التي لها حوالي خمسة آلاف عسكري في العراق، ساعدوا في تدريب الجيش العراقي وتقديم المشورة له خلال حربه مع متطرفي تنظيم الدولة، ومع أن إدارة ترامب لم تعلق بعد على الانتخابات، إلا أن أحد كبار المستشارين لدى الصدر قال إن أمريكا استخدمت وسطاء للاتصال بأعضاء من التحالف السياسي للصدر بعد فوزه".
ويبين البازي أن "الصدر البالغ من العمر 44 عاما، الذي كان حليفا لإيران، وعاش في إيران فترات طويلة خلال الحرب الأهلية في العراق، أصبح منتقدا شديدا لتأييد إيران للفصائل الشيعية العراقية في السنوات الأخيرة، وقال في أكثر من مناسبة إنه لن يشارك في ائتلاف حكومي مع حلفاء إيران، لكنه تواصل مع العامري، الذي هو أقرب شريك عراقي لإيران، ومع زعيم شيعي آخر هو عمار الحكيم، وهو مدعوم من إيران أيضا، إلا أن الصدر حريص في الوقت ذاته على استثناء حليف آخر لإيران، هو رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، الذي حصلت كتلته على 25 مقعدا في البرلمان الجديد".
ويورد الكاتب أن المسؤولين الإيرانيين قالوا في فترة الإعداد للانتخابات بأنهم لن يقبلوا بحكومة عراقية بقيادة حلفاء الصدر، فقال علي أكبر ولايتي، وهو كبير مستشاري الزعيم الروحي الإيراني آية الله خامنئي، في شباط/ فبراير: "لن نسمح لليبراليين والشيوعيين أن يحكموا العراق"، مستدركا بأنه بعد هذا الفوز المفاجئ قام خامنئي بإرسال قائد فرقة العمليات الخارجية في الحرس الجمهوري قاسم سليماني إلى بغداد؛ للمساعدة في تنظيم حلفاء إيران.
ويقول البازي: "لدى النظام الإيراني مصالح كثيرة في رعاية حكومة صديقة في بغداد: فالعراق يوفر عمقا استراتيجيا لإيران، وحاجزا بينها وبين السعودية والدول السنية الأخرى، التي تتنافس مع إيران لبسط النفوذ في المنطقة، بالإضافة إلى أن إيران تريد أن تتأكد من أن العراق لن يشكل تهديدا وجوديا لمصالح إيران، كما حصل في عهد الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، عندما غزا إيران في ثمانينيات القرن الماضي، ودعمت صدام وقتها الدول العربية السنية ومعظم الدول الغربية خلال حرب العراق مع إيران، التي دامت ثماني سنوات، والتي دمرت البلدين".
ويشير الكاتب إلى أن "الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، الذي هدف للإطاحة بصدام حسين، فتح الباب أمام النفوذ الإيراني في العراق، وتحركت طهران بسرعة لتشكيل تحالفات مع الفصائل الشيعية كلها".
ويلفت البازي إلى أنه "كان للصدر لسنوات عديدة بعد الغزو الأمريكي تأثير أكبر من حجمه على السياسة العراقية؛ فكان بإمكانه تحريك الجماهير بطريقة لم يستطعها الزعماء العراقيون، وأقام أتباعه إحدى أقوى المليشيات خلال الحرب الأهلية العراقية، وأدى دور صانع الملوك فيما يتعلق باختيار رؤساء الوزراء وتشكيل الحكومات الائتلافية".
ويذكر الكاتب أنه "عندما ظهر الصدر عام 2003 لم يكن قد بلغ 30 عاما من العمر، وكان على بعد عقود من الحصول على لقب آية الله، ولم تكن لديه المكانة الدينية ليصبح مرجعا شيعيا، لكنه كان الابن الوحيد الناجي لآية الله العظمى محمد صادق الصدر، الذي اغتاله النظام العراقي عام 1999، وكان الأب على خلاف السيستاني، يدعو لمشاركة رجال الدين في السياسة".
ويبين البازي أنه "بالإضافة إلى نسبه، فإن الصدر كان لديه سبب يجعله يدعي أحقيته في الزعامة، وهو أنه لم يغادر العراق ليعيش في المنفى خلال حكم صدام القاسي، وبعد الإطاحة بصدام، شجب الصدر وأتباعه الاحتلال الأمريكي وخطة إدارة بوش لتعيين حكومة مؤقتة، تضم من تفضلهم من سياسيي المنفى، مثل أحمد الجلبي وإياد علاوي، وقام أتباع الصدر بالاستيلاء على المستشفيات والمدارس والمساجد في مناطق من بغداد والنجف وكربلاء، وقاموا بتوفير الخدمات الاجتماعية في ظل غياب حكومة مركزية، وانتشرت الملصقات التي تحمل صور الصدر على الجدران في المناطق الشيعية، وجذب عشرات الآلاف لمظاهراته ولخطب الجمعة، واستطاع أن يجند عدة آلاف مقاتل، معظمهم من الشباب الشيعة من المناطق الفقيرة في بغداد ومن جنوب العراق؛ للانضمام إلى المليشيا الجديدة، جيش المهدي".
ويوضح الكاتب أنه "بعد أن سحب الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما القوات الأمريكية المتبقية في العراق في أواخر عام 2011، فإن الصدر دخل في خلوة، مع أن مؤيديه استمروا في الترشح للبرلمان وإدارة عدد من الوزارات الرئيسية، وكان الصدر قد بدأ في إعادة تشكيل نفسه بصفته زعيما قوميا عراقيا ومحاربا للفساد، وكان ينتظر على الهامش لفرصة أخرى يؤدي فيها دور المخلص".
ويورد البازي أن "الصدر وجد فرصته في صيف عام 2014، عندما احتل تنظيم الدولة الموصل، وقام السيستاني بدعوة الشباب الشيعة للتطوع لمساعدة الجيش العراقي، وفي الوقت الذي انضم فيه مؤيدو الصدر للقتال ضد تنظيم الدولة، فإن الصدر دعا لتحالفات مع السنة، ومع حلول عام 2015 كان الصدر قد انضم إلى تحالف يضم علمانيين وشيوعيين عراقيين، ضد الفساد وضد النخبة السياسية".
وينوه الكاتب إلى أن "الصدر حرّض في شباط/ فبراير 2016 على حملة احتجاج في بغداد؛ بهدف إنهاء فساد الحكومة وسوء الإدارة المالية، شبيهة نوعا ما بالثورات في عواصم عربية أخرى، وتمكن الصدر من إنزال عشرات آلاف العراقيين إلى الشارع في بغداد على مدى شهرين، وطالب رجل الدين أن ينفذ العبادي وعده بالإصلاحات، وهي إلغاء ثلاثة مناصب لنائب الرئيس، وتخفيض النفقات، وإلغاء المحاصصة الطائفية في التعيينات السياسية".
ويفيد البازي بأنه بعد أشهر من التظاهر، قام أنصار الصدر باقتحام البرلمان في أواخر نيسان/ أبريل في المنطقة الخضراء المحصنة في بغداد، مشيرا إلى أن المتظاهرين انسحبوا بعد 24 ساعة، لكن الصدر توعد بالمزيد من المظاهرات.
ويعلق الكاتب قائلا إن "صور ذلك اليوم كرست موقف الصدر الجديد بصفته قوميا عراقيا ومكافحا ضد الفساد، وواحدا من القلة من الزعامات المستعدة للوقوف ضد النفوذ الإيراني في العراق، كما شكلت المحفز لفوزه المفاجئ في الانتخابات".
ويختم البازي مقاله بالقول: "لكن اليوم، ولتكون هناك فرصة أمام إصلاحات حقيقية، فإنه يجب على الصدر أن يمارس السياسة ويواجه القوى التي قضى سنوات يوجه لها الانتقادات اللاذعة".