حاولت إيجاد عنوان "غميئ" بالتعبير المصري العامي، لا لرغبة في ذلك، ولكن لأن الموضوع أصبح ضاغطا جدا على نفسية الكثيرين، وأنا منهم. والعناوين "الغميئة" قد تكون وسيلة للسخرية من الموضوع أكثر منها وسيلة للإيضاح.
ليس هذا محل النقاش الآن حول علاقة العنوان بالنص، فما نريد مناقشته هو أسباب الرغبة الدفينة - وربما المعلنة - عند قطاعات واسعة للتطبيع مع العدو، أو بمعني أدق إزالة الفواصل النفسية والفكرية معه، وعند محاولة الإجابة على هذا السؤال وجدت أنه من الضروري أولا تحديد عدة مفاهيم: ماذا يعني
التطبيع، ومن هو العدو وكيف يمكن تحديده؟ والسؤال الثالث: لماذا يصر أصحاب المنهج التطبيعي مع العدو - إن صح التعبير - على تمييع كل شيء، وإعادة تعريف كل شيء ليصبح كل شيء ممكنا، بل ومنطقيا، ويجعل التمسك بأي شيء ضربا من التطرف والجنون.
أسئلة كثيرة قد لا يتسع المجال للخوض فيها بعمق إلا أن الإجابة على السؤال المركزي حول سبب الرغبة العميقة في التطبيع؛ لا يمكن أن تكون واضحة دون محاولة الإجابة على تلك الأسئلة. وقد يتبادر إلى الذهن فور استخدام كلمة التطبيع أن المقال متعلق بالعدو الصهيوني، ربما يكون كذلك؛ ولكنهم بالتأكيد ليسوا الصهاينة المتبادرين فورا إلى الذهن.
فلو كنت من غير المطبعين فستحاول أن تحدد عدوا، وهم صهاينة بالتأكيد، أما إن كنت من المطبعين، فهم ليسوا كذلك، بل الجميع أصدقاء تفرقت بهم السبل ولا بد من يوم آت يعاودون فيه العناق.
ولأن المحاور الثلاثة تتحرك بالتوازي، فالحديث متداخل، وكل واحد منها لا بد أن يجيب على الاثنين الآخرين.
ما هو التطبيع؟
هو محاولة كسر الفاصل الأخلاقي والفكري والنفسي بين طرفين، لتصبح العلاقات مبنية على الوضع الطبيعي، وهو حالة اللا مشكلة، وبالتبعية عدم وجود أي أحكام مسبقة ولا صور ذهنية قديمة، أي بتعبير مباشر" تصفير العداد" ولنبدأ من جديد. وتحل هنا إجابة السؤالين الآخرين، فتصفير العداد يلغي مفهوم العداء، وكذلك يصبح الحديث عن أي ثوابت أو أفكار أو تاريخ هو محض غباء. فقد صفرنا العداد يا سادة، كما أن الطريق إلى التطبيع الكامل لا بد أن يكون ممتلئا بتمييع المصطلحات. فلو تابعنا مثلا ما حدث مع العدو الصهيوني في وسائل
الإعلام، سنجد تطورا بطيئا خطوة بخطوة. ففي البداية كان اسمة الكيان الصهيوني، ثم العدو الصهيوني، ثم تحول إلى العدو
الإسرائيلي، ثم إلى قوات الاحتلال الإسرائيلي ونهاية دولة إسرائيل، كما تغيرت كلمة الصراع العربي الإسرائيلي إلى النزاع الحدودي، ثم تحولت إلى القضية الفلسطينية، فتحولت العبارات من عبارات حاسمة قاطعة معبرة إلى أشياء أخرى. كل ذلك لتمهيد الأرض للتطبيع الكامل.
وكل ذلك له تبرير، سواء بسبب ظروف الواقع أو الضغوط أو فارق القوة، وكل ذلك صحيح قطعا؛ ولكنه يستخدم في المكان الخاطئ، فالضعف قد يجبرك على تغيير إجراءاتك وليس أفكارك، وقد يدفعك لتقوية نفسك في المسار الصحيح لا الاستسلام للضعف، وفي أسوأ الأحوال قد يدفعك للكمون الآمن وليس استجداء الأمن من العدو. فالهبوط من الكيان الصهيوني إلى دولة إسرائيل ليس له علاقة بفارق القوة إلا لو كانت القوة النفسية للمقاوم.
هذا ما يحدث مع العدو الاستراتيجي الآن، وكل له الحق في تصوره ووصفه. فبعد أن كان صراعا صفريا وجوديا؛ أصبح صراعا سياسيا، ثم أصبح أزمة سياسية، ثم تحول لبحث عن حل لأزمة الرهائن، وفي أقوال أخرى تحول لمشكلة العودة إلى الوطن.
وكما حدث في صراعنا الطويل مع الصهاينة يحدث في صراعنا مع العدو الاستراتيجي، فتعريف العدو غير موجود، فلا يوجد أعداء في الأزمات السياسية، فقط هو خلاف في وجهات النظر، وأصبح المتحدثون عن أصل الأزمة وعن الصراع الوجودي مجموعة من الحمقي. فتصفير العداد شرط لازم للبدء وشرط لازم لمحو فكرة العداء، والحديث عن الأصول الفكرية والأيديولوجية مهما كانت؛ أصبح حالة من التشدد و"الدعشنة" بتعبير "رفاق الثورة".
من هو العدو
لا يوجد عدو، فقط هو خلاف حول إجراءات، والخلاف في الإجراءات لا ينتج عدوا، لذلك يحاول المطبعون إلغاء فكرة العدو. فكما حدث مع الصهاينة تحولوا من عدو إلى جار نحاول صناعة السلام الدافئ معه، وهذا ما يحدث مع العدو الحالي الأكثر قدما؛ الذي حاول المطبعون دوما وضعه في مساحة أخرى بعيدة تماما عن العداء. ربما تكون هذه المساحة هي الرغبة في السلطة أو الاستبداد، لكن أبدا لا تكون عداء متكامل الأركان. لقد عشنا حتى رأينا الصهاينة جارا عزيزا بسلام دافئ، فقد أصبح جميع الأعداء أصدقاء؛ صهاينة وعربا متصهينة، وفقدت أجيال بوصلة المنطق، وتحولت الثوابت إلى أفكار قابلة للنقاش وتحولت الخيانة إلى وجهة نظر.
لم يعد هناك عداء، وليذهب من ينعت العدو بأنه عدو إلى جحيم الحماقة والتهور والسفة والاستبعاد من زمرة العقلاء، وليعش المطبعون في برجهم الحكيم يتوددون "للعدو"، ولتسحق شعوبهم، وتبقى هذه الشعوب في معارك طواحين الهواء التي تصنعها أوهام المطبعين.
كل شيء يمكن أن يصبح منطقيا
في غياب العدو وغياب الثوابت الفكرية والأخلاقية، وفي أيام الضعف والهزيمة النفسية وامتلاك جوامع المنطق والكلمات؛ يمكن لكل شيء أن يصبح منطقيا. فالاغتيال نروج له على أنه "تصفية" مصطلح يشير إلى التنظيف أكثر من الجريمة، والمختطفون الرهائن يصبحون معتقلين سياسيين، والاحتلال بالوكالة يسمى انقلابا، ليتحول من مشكلة وجودية لمشكلة إجرائية، والسرقة تحت تهديد السلاح يسمى بالإجراءات الاقتصادية الصعبة، ولا مشكلة في أن نكون "موضوعيين" ونأتي على منابرنا برجال من "الأعداء"؛ لأننا "موضوعيون" ومنطقيون، ونسعى لحل الأزمة والتقارب مع الجميع. فالتطبيع مع العدو الذي يبدأ على المنابر ويخرج معلنا في كلمات المطبعين، سينتهي كأحضان كامب ديفيد أخرى بين سادات لا نعلم من سيقوم بدوره وبين المتصهينين العرب.
هذه النقاط الأولية تجعلنا أقرب للإجابة على السؤال الرئيسي: ما هو الدافع لموجات التطبيع التي تصدم شواطئنا المنفية بين الحين والآخر، وتجد الكثير يتلقفون ضرباتها الموجعة بامتنان، متناسين العدو الذي يمارس ضحكاته الساخرة على الشاطئ الآخر؟ لماذا يسعى هؤلاء لتصفير العداد؟
الرغبة في العودة
الجميع يشعر بالحنين لبلاده التي ترك فيها تاريخه وذكرياته وحلمه الأول وسنواته القديمة وحبه الأول، وحتى لحظات اليأس والأمل التي عاشها في سنواته الطويلة، ولكن العودة في هذا الوضع الكارثي للبلاد لن تكون عودة حقيقية إلا إذا كانت مبنية على أسس صحيحة، وإلا ستكون عودة السجين إلى سجانه، حتى لو كانت خارج حدود مراكز احتجاز الرهائن الرسمية، فلنعد إذا منكسي الرؤوس وسط أوهام الانتصار الزائف وتحت مقصلة العدو الذي لا نريد رؤيته،فعودة المطبعين وأصدقاء العدو على طريقة كامب ديفيد، ستكون جزءا من جريمة مستمرة منذ انقلاب تموز/ يوليو 2013، فهي عودة قتل أمل تحرير مصر واستكمال لمسار السلام الدافئ مع العدو الذي لم يعد عدوا.
استكمال استعمار مصر
هو مصطلح قديم منذ أن قاله تيموثي ميتشل لا يزال صالحا حتى الآن، فهناك شعب لم يذق طعم الحرية أو العدل منذ مئتي عام أو يزيد، وهناك رجال يصارعون حول استكمال استعماره بصور متعددة، سواء بالرداء الكاكي أو بغيره، فهذا الشعب لم يجد من يراه.. الكل يتحدث باسمه، ولكن الكل لا يراه ولا يحدثه؛ بل أغلب المتحدثين يحدث أنداده من الأعداء أو الأصدقاء من زمرة الراغبين في العودة الناتجة عن التطبيع، أو من الطبقة الحاكمة الحالية، فالهدف ليس تحرير مصر ولكن الاشتراك في استعمار مصر.
تدمير الأمل
كل الأحلام الكبيرة تبدأ بالأمل ثم العمل على تحقيقها، ولقد حققنا خطوات على الطريق الصحيح في إدراك حجم وعمق الصراع الذي تعيش فيه مصر وكل المنطقة العربية بالخصوص، ويزداد كل يوم حجم الكتلة التي تدرك طبيعة الصراع، إلا أن المطبعين يرون في ذلك خطرا داهما على استمرار وجودهم، ولذلك فالسعي الحثيث لتدمير الأمل في التحرر، والذي بدأ يفتح مسارات للعمل التحرري الحقيقي، هو الشغل الشاغل لرافعي لواء التطبيع مع العدو، وكلما تحرك الشعب خطوة في الطريق الصحيح؛ تحركوا خطوات في الطريق الخاطئ.
إذا شعر البعض أن هذا الكلام غير صحيح، فليراجع مراحل التطبيع مع الصهاينة إعلاميا ونفسيا، ثم يعود ليرى مشاهد التطبيع الإعلامي والنفسي الحثيثة الحالية مع العدو، وحينها ربما يقتنع بأن هناك خطوات واسعة حدثت في هذا المسار، وربما لم يبق إلا عناق كامب ديفيد. إلا أن هناك استثناء مهما، ألا وهو استمرار كتلة صلبة شعبية لا زالت ترفض عناق كامب ديفيد، وتصر على أن هناك عدوا، وعلى أن الخيانة ليست وجهة نظر، وربما هي العقبة الكبرى في طريق كامب ديفيد الجديدة.