MEE: الأردن يناضل للبقاء رغم محور أمريكي سعودي جديد

نشر الكاتب في صحيفة "ميدل إيست آي" البريطانية تقريرا، تحدث فيه عن الاحتجاجات التي تجري في الأردن وأسبابها، في ظل الأجواء السياسية التي تعصف بالمنطقة.

وقال الكاتب "شون يوم"،  الأستاذ المشارك في العلوم السياسية بجامعة تمبل في أمريكا، إن الأردن يناضل "من أجل التوصل إلى استراتيجية للبقاء في ظل المحور الأمريكي الإسرائيلي السعودي".

وتحدث الزميل المخضرم، في برنامج الشرق الأوسط التابع لمعهد أبحاث السياسة الخارجية، عن محاولة الأردن البقاء على قيد الحياة في ظل الظروف المحيطة، وأنه قد يصبح قريبا لإيران في ضوء المعطيات الحالية.

وفي ما يلي المقال كاملا مترجما من "عربي21":

بينما يداهم الاتحاد الأمريكي الإسرائيلي المنطقة ليسيطر عليها، يعاني الأردن من انقلاب عالمه الجيوسياسي رأسا على عقب.

في كانون الأول/ ديسمبر  2004، دشن عاهل الأردن الملك عبدالله العصر الطائفي الجديد بتحذيره الولايات المتحدة والحلفاء العرب من بزوغ "الهلال الشيعي"، المتمثل في حملة إيرانية لا هوادة فيها؛ بهدف تخريب الشرق الأوسط والسيطرة عليه. تحققت النبوءة بتشكيل تحالف سني عربي للمساعدة في تغذية موجة جديدة من التوترات والصراع مع إيران.

إلا أن الملك عبدالله صدم الكثيرين قبل أسبوعين عندما صافح خصمه الشيعي. بالكاد حظي لقاء الملك بالرئيس الإيراني حسن روحاني أثناء قمة منظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول بأي ذكر في الصحافة الأردنية، وكان ذلك لسبب وجيه. فكونه رائدا للتحالف السني العربي، طالما اعتبر الملك عبدالله إيران عدوا لدودا للعالم العربي. وبينما انشغلت الصالونات السياسية في عمان بالحديث عن اللقاء، إلا أن القصر الملكي لم يعط أي تفسير له.

سياق تاريخي

ما من شك في أن هذا التغير في الموقف يكتسب أهمية خاصة للسبب ذاته الذي حدا بالملك عبدالله، في سلوك مثير للجدل، الإحجام عن مصافحة ولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان أثناء قمة جامعة الدولة العربية التي انعقدت في نيسان/ أبريل. لقد انقلب عالم الأردن الجيوسياسي رأسا على عقب منذ عام 2016 عندما دهم المحور الأمريكي الإسرائيلي السعودي المنطقة ليهيمن على شؤونها.

لم يجد الأردن لنفسه مكانا في هذا النظام الجديد، فراح يبحث عن تحالفات جديدة؛ سعيا للحفاظ على وجوده. وفي هذه المفارقة العجيبة قد يصبح أقدم ناقد للهلال الشيعي أحدث صديق له.

ينساب وضع الأردن الإقليمي من سياق تاريخي معين. معظم الدول تتمنى أن تزدهر. أما الأردن فسيكون محظوظا لو بقي على قيد الحياة. حصل البلد على سيادته قبل سبعين عاما بلا موارد طبيعية وبمجتمع مشاكس يجتهد ليعيش في ظل نظام ملكي مستورد. يتمثل رأسمال الأردن الوحيد في موقعه الجغرافي، حيث إن المملكة التي تحاط تقريبا من كل الجهات بالبر تحاذي إسرائيل وتصل المشرق بأسره جغرافيا بالخليج العربي.

تعلمت قيادته على شبك نفسها بطموحات الولايات المتحدة والقوى الإقليمية التي كانت تحتاج إلى دولة وكيلة مستقرة لرصد أزمات خط المواجهة وتوجيه التدخلات المجاورة. وفي المقابل، حصل الأردن على المساعدة والسلاح، والحماية الضرورية لتغذية اقتصاده، والحفاظ على جيشه، وبناء مؤسسات دولة وظيفية.

تفسر تلك الحاجة الملحة للبقاء التقلبات الكبيرة التي كانت تطرأ على سياسة الأردن الخارجية منذ معاهدة السلام مع إسرائيل في عام 1994 وحتى ما بعد التحذير من الخطر الإيراني على المنطقة. كما كان يعني ذلك، وعلى مدى عقود، أن الأردن كان حجر الزاوية للاستقرار الإقليمي – شريك في عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، وصوت التحالف العربي السني، وحليف أساسي للولايات المتحدة الأمريكية.

كما أن القرب الجغرافي سمح للأردن بأن يكون نقطة انطلاق رئيسية في الحملات التي شنت على تنظيم الدولة الإسلامية في كل من سوريا والعراق. كانت إدارة أوباما تقدر هذه الخدمات المخلصة، ولذلك تلقى الأردن ما بين عامي 2011 و 2017 معونة اقتصادية وعسكرية أمريكية تتراوح قيمتها بما يقرب من 1.2 مليار دولار كل عام بالإضافة إلى تمويل كبير من دول الخليج.

إلا أن هذه الاستراتيجية كانت تقوم على فرضية أن القوى الخارجية سوف تحتاج الأردن لحل أزماتها. لم يعد ذلك وارداً بعد تشكل المحور الثلاثي الأمريكي الإسرائيلي السعودي وارتقائه ليهيمن على المنطقة. محمد بن سلمان وإدارة ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو – وثلاثتهم من المفروض أنهم حلفاء الأردن، على الورق على الأقل – يصدحون بالخطاب الطائفي ذاته الذي سبقهم إليه الملك عبدالله في يوم من الأيام. إلا أن رؤيتهم المشتركة تخرج الأردن من المركز وتلقي به إلى هامش المعادلة الإقليمية من خلال قلب القضية الفلسطينية رأساً على عقب ووضع بذور صراعات لا تطاق.

الوضع الطبيعي الجديد

أولاً، وكما ظهر من الجدل حول القدس، عمل المحور الأمريكي الإسرائيلي السعودي على قتل حل الدولتين سامحاً لإسرائيل وحدها بأن تملي ما هو مصير الفلسطينيين. وهذا يهدد الأردن وجودياً، حيث أن ثلثي سكانه هم من الفلسطينيين، ورغم أن معظمهم مواطنون أردنيون، إلا أن النقاشات المؤلمة حول الجنسية والأصول تثير ما يكفي من ذكريات ما جرى في الحرب الأهلية عام 1970، والتي طالما كان الحديث فيها من المحرمات.

منذ اتفاقيات أوسلو، توسط النظام الملكي في العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية على فرضية أن ذلك سيؤول في نهاية المطاف إلى تشكل دولة فلسطينية مستقلة. ومن خلال حق العودة كان من المفترض أن يساعد ذلك على إعادة تحديد هوية المواطنة الأردنية وأن يقنع الفلسطينيين بالمغادرة وأن يضع حداً لأحلام حزب الليكود الإسرائيلي بتحويل الأردن إلى الوطن البديل للفلسطينيين. 

لم يلبث نقل السفارة الأمريكية إلى القدس أن أتى على ذلك الهدف وقضى عليه قضاء مبرماً، واضعاً الأردن في متاهة دائمة سكانياً واستراتيجياً. بات الرأي العام الآن، والذي اشتعل غضباً على إثر مقتل أردنيين اثنين في تموز/ يوليو  2017 في مقر السفارة الإسرائيلية، يرى بأن النظام الملكي غير قادر على حماية حديقة الأردن الخلفية. قد يكون ذلك صحيحاً، ولكن ليس بسبب عدم المحاولة.

لم يتمكن عبدالله من إقناع محمد بن سلمان عندما زار الرياض في كانون الأول/ ديسمبر  بالعدول عن خطته، بل الذي حدث أن الثاني طالبه بالرضوخ لما تتطلبه تلك الخطة. ولقد زار عبدالله واشنطن أربع مرات خلال عام 2017 مذكراً إدارة ترامب بولاء الأردن على مدى عقود متتابعة وبولاية الأردن على الأماكن المقدسة في القدس.

إلا أن شيئاً من ذلك لم يجد نفعاً. وعبر الملك الأردني عن سخطه عندما زار نائب الرئيس الأمريكي مايك بينس عمان في كانون الثاني/ يناير، إلا أن الواقع الجديد لم يعد ممكناً التراجع عنه. وأياً كان الشكل الذي ستأتي به صفقة القرن، فإن المساهمة الأردنية فيها غير مطلوبة وغير مرحب بها من قبل الأطراف الأمريكية والإسرائيلية والسعودية التي صممتها.

الأردن يقاوم ومحمد بن سلمان ينتقم

على الجبهة الثانية الخاسرة، عمدت المملكة العربية السعودية إلى إحالة الأردن إلى مرتبة دنيا في المنظومة الجيوسياسية الإقليمية، علماً بأنه منذ الربيع العربي، وبفعل الصراع والركود، وقع تهميش كل من القاهرة ودمشق وبغداد – التي كانت تقليدياً مراكز السياسات العربية القومية ومهد الحضارة الإسلامية.

والآن تهيمن الرياض على ميزان القوة، وتمارس التنمر على كل من يخالفها في التفكير بشأن الاستقرار في المنطقة. ولا أدل على ذلك من حصارها لقطر، الذي يعتبر المثال الصارخ على تنمرها ذلك. إلا أن الأردن لم يسلم من الاستهداف أيضاً.

امتطى الأردن أجنحة الصعود الخليجي في وقت مبكر، بل لقد فكر في الانضمام إلى مجلس التعاون الخليجي أثناء الربيع العربي. إلا أن سياسة محمد بن سلمان ومبادراته تعامل الأردن كما لو كان تابعاً صغيراً في أحسن أحواله، مما نجم عنه نمط سلوكي باهظ التكاليف: يقاوم الأردن المقترحات السعودية فتنطلق مباشرة عملية الانتقام النكد ضده.

على سبيل المثال، بعد الزيارة المتوترة التي قام بها الملك عبدالله بشأن القدس في كانون الثاني/ ديسمبر، اعتقلت السلطات السعودية رجل الأعمال الأردني الفلسطيني الزائر صبحي المصري، الذي يعتبر مصرفه "البنك العربي" المؤسسة المالية الأردنية الأهم على الإطلاق. ما لبثت رسالة التهديد هذه أن أتبعت بدسيسة ملكية عندما أقال عبدالله ثلاثة من أقرب أقربائه من الجيش وسط إشاعات أفادت بأنهم كانوا على تواصل مع السعوديين. 

وفي شهر شباط/ فبراير  أمسكت المملكة العربية السعودية 250 مليون دولار من مساعدة موعودة رداً على رفض عبدالله الانصياع إلى مناشدة محمد بن سلمان له بأن يعتذر عن حضور قمة منظمة التعاون الإسلامي حول فلسطين.

كما تم تجاهل مصالح الأردن تماماً في سوريا. يكاد يكون نظام الأسد قد كسب الحرب المأساوية. ورغم جهود الأردن للقبول بوضع قائم مستقر، إلا أن المحور الثلاثي يتحدث عن حق التدخل مستقبلاً، وخاصة ضد القوات الإيرانية. على النقيض من حالة تنظيم الدولة الإسلامية، والذي ساعدت عمان في سحقه والقضاء عليه، فإن نظام الأسد أصلاً لا يعرض استقرار الأردن للخطر.

إلا أن إبقاء سوريا في حالة صراع مفتوح يمكن أن يهدد الاستقرار في الأردن لأنه يديم حالة العبء الاقتصادي الناجم عن استضافة ما يقرب من مليون لاجئ سوري ويتطلب جهوداً إضافية لحراسة الحدود فيما لو فرض الحصار. ولذلك فقد تواصل الأردن بهدوء مع الأسد خلال العام الماضي، وأرسل إلى دمشق بمبعوثين من القصر ومن جهاز المخابرات للتمهيد لإعادة تطبيع العلاقات. ولقد أثبتت روسيا في هذه المهمة بأنها أفضل بكثير من الولايات المتحدة التي دعمت في شهر إبريل أشد قصف صاروخي إسرائيلي تتعرض له سوريا حتى الآن.

تراجعات وإعادة موازنات

تعتبر هذه الانقلابات الجيوسياسية غاية في الخطورة ولكن لعلها كانت حتمية. لم تكن أهمية الأردن في يوم من الأيام ناجمة عن حجمة أو قوته وإنما عن قدرته على إقناع الحلفاء الخارجيين الراغبين أنه قادر على المساعدة في حماية مصالحهم.

ولكن حينما لا ترى القيادات السياسية في الولايات المتحدة وإسرائيل والمملكة العربية السعودية أن لعمان من الآن فصاعداً أي مكانة مركزية بالنسبة لمصالحهم، فقد يعني هذا أن الأردن سيتراجع ليصبح دولة طبيعية بكونه كياناً ضئيلاً ومملكة فقيرة ترزح تحت رحمة القوى الأكبر.

ومع ذلك، نجم عن مثل هذا التراجع لجوء القيادة الأردنية إلى إعادة موازنة سياستها الخارجية. وقد تكون مصافحة إيران في قمة منظمة التعاون الإسلامي منطلقاً لتغيرات دراماتيكية سيشهدها العام المقبل، تغيرات تتحدى النظام الإقليمي من خلال الدفع بالأردن بعيداً خارج ما يرغب برؤيته أصحاب المحور الثلاثي.

وقد لا يقتصر الأمر على احتفاء الأردن بالعلاقات مع إيران وإنما سيشمل تطبيعاً كاملاً مع سوريا، مع الاستمرار في رفض القبول بأن تكون القدس عاصمة إسرائيل، وربما الانحياز إلى جانب قطر فيما تتعرض له من حصار، وضمان داعمين جدد مثل تركيا.

مثل هذه الاستراتيجيات لن تجعل من المملكة بلداً أكثر نفوذاً ولكنها ستضمن بقاءها على قيد الحياة – وهذا هو الهدف الوحيد المهم الآن، وخاصة بعد موجة الاحتجاجات والقلاقل الاجتماعية الأخيرة.

التكلفة الاقتصادية

كشف الإضراب العام الذي نظم يوم الأربعاء عن التكلفة التي يتكبدها الأردن جراء تراجع دوره على المستوى الإقليمي. كانت المساعدات الخارجية، تقليدياً، هي الحبل السري الذي يحافظ على حالة اليسر المالي وعلى قدرة البلد على الوفاء بسداد ما عليه من ديون. فعلى الرغم من أن الاقتصاد الضعيف قد لا يتمكن إطلاقاً من إيجاد ما يكفي من الوظائف إلا أن المال القادم من الخارج يمكن الحكومة على الأقل من توفير الدعم السخي وتجنب جبي معظم الضرائب على الدخل.

وبينما يستمر الدعم الأمريكي حتى هذه اللحظة دون تغيير، إلا أن تهميش الأردن من قبل المملكة العربية السعودية تجلى في رفض الأخيرة تجديد برنامج المساعدة الذي تعهد به مجلس التعاون الخليجي لخمسة أعوام، وهي المساعدة التي مكنت الأردن من الوقوف على قدميه في عام 2017. وجراء ذلك يجد الأردن نفسه مثقلاً بالأعباء الناجمة عن وجود عدد كبير من اللاجئين على أراضيه، بينما يحرم من مساعدات جديدة من المانحين ويتعرض في الوقت ذاته لضغوط صندوق النقد الدولي، الذي يلزمه بتقليص ديونه المهولة التي تكاد تعادل في حجمها ناتجه المحلي الإجمالي.

وكانت النتيجة التقشف المالي، حيث لجأت الحكومة إلى وقف الدعم على كثير من السلع وإلى التشدد في نظام الضرائب، وفي المقابل شهدت البلاد غضبا شعبيا لم تشهده بهذا المستوى منذ انطلاق الربيع العربي. فعلى سبيل المثال، حينما تضاعف سعر الخبر تقريباً في كانون الثاني/ يناير  انطلقت عدة مسيرات احتجاجية.

أما الإضراب الكبير الذي نظمته يوم الأربعاء النقابات المهنية فاستهدف مشروع قانون يعيد النظر في ضريبة الدخل، رغم أنه لن يمس معظم الأردنيين العاملين: فالقانون الجديد يعفي الأفراد الذين لا يتجاوز دخلهم السنوي مبلغ ثمانية آلاف دينار (أي ما يزيد قليلاً عن أحد عشر ألف دولار أمريكي)، وهو إعفاء سخي إذا ما أخذنا بالاعتبار أن متوسط الرواتب في الأردن هو خمسة آلاف وأربعمائة دينار (أي ما يزيد قليلاً عن سبعة آلاف وخمسمائة دولار أمريكي).

لكن السبب الحقيقي في الغضب الجماهيري لا يتعلق بالضرائب، وإنما بشيء أشمل من ذلك – إنها فكرة تنصل الدولة من التزامها بموجب العقد الاجتماعي دون أن تقدم شيئا في المقابل. من وجهة نظر النظام الملكي، لا يملك الأردن خيارا آخر. إلا أن احتمال توسع حركة الاحتجاج الاجتماعي وزيادة القلاقل يجعل البحث عن قناة جيوسياسية جديدة لضمان البقاء أكثر إلحاحا من أي وقت مضى.

تعريف بكاتب المقال شون يوم: أستاذ مشارك في العلوم السياسية بجامعة تيمبل بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو زميل مخضرم في برنامج الشرق الأوسط التابع لمعهد أبحاث السياسة الخارجية، ومؤلف كتاب "من الليونة إلى الثورة: كيف تزعزع التدخلات الخارجية الاستقرار في الشرق الأوسط".