في فترات طويلة من التاريخ المكتوب، كانت غالبية الأديان الوضعية لها نموذج واحد: إله وكهنة ومعبد ومذبح، كل ديانة لها إلهها الخاص بها، إلا أن جميع الأديان تقريبا بلا استثناء - كما أعلم - كانت لها كهنتها العارفين بأسرار الإله. وتحت سيطرة هؤلاء الكهنة، نجد المعابد والمذابح والقرابين التي تقدم على طاولات المذابح.
نحتاج لمعرفة سبب وحدة النموذج مع اختلاف الآلهة عبر التاريخ وكذلك باتساع الجغرافيا، فهذا النموذج ظهر في كل العالم القديم كما ظهر في سكان الأمريكتين وسكان أستراليا وديانات الشرق الأقصى، إلا أن هذا ليس موضوعنا الآن، فسؤالنا الحالي: هل تخلينا عن المذابح والمعابد والكهنة، أم أننا لا زلنا ندور في فلكهم وما زالت القرابين تقدم على المذابح الحديثة؟
كانت القرابين تقدم للآلهة، ولكنها في الحقيقة كانت ملكا مطلقا للكهنة، وكانوا يزيدون من ثروتهم على حساب المجتمع والفقراء الباحثين عن الأمان عن طريق القرابين المقدمة للآلهة كما يظنون، لقد كانت عبودية بشكل ما سيطرت بها طبقة الكهنة والملوك على البشر برغبتهم. ومع الوقت، انهار النظام الكلاسيكي للمعابد والكهنة والقرابين، وكان من الضروري تغيير النمط مع الحفاظ على النموذج، فلا زال البشر يدفعون أموالهم لصالح الكهنة على المذابح، فالبنوك هي المذابح الجديدة والدولار هو القربان الجديد.
الكل يدرك أن
الدولار هو ورقة خضراء لا تحمل قيمة في ذاتها، لقد حول الكهنة الجدد المال إلى سلعة لا ليسهلوا التداول ولكن ليسرقوا ثروات شعوب العالم المتراكمة الناتجة من عملها ومواردها الحقيقية، ومن الضروري أن تدرك الشعوب أن الخروج من سيطرة الدولار ليس فقط نوعا من الاستقلال والتخلص من التبعية، ولكنه إنهاء لحالة السرقة المستمرة منذ اعتبار الدولار مرجعية القيمة.
فالكهنة الجدد همم رجال الاقتصاد العاملين مع الإله الجديد (السوق) ومركزه النظام الأمريكي. يديرون المعابد الجديدة "البنوك" لامتصاص دم الشعوب وثرواتهم "سعر الدولار"، إنه ذات النموذج ندور فيه، تتغير الوجوه والأشكال والأنماط ويبقى النموذج للكهنة والعبودية للبشر.
ما يحدث في تركيا وغيرها قبل ذلك حرب معلنة؛ نتيجة لمحاولة الأتراك التحرك قليلا خارج النموذج، مما سيقلل مرحليا حجم الاستغلال الناتج من القرابين الإجبارية التي يدفعها كل سكان الأرض للأمريكان عن طريق الدولار، وربما تكون أحد مسارات الحل في التخلص من الدولار بشكل جماعي.. ربما يحقق خسارة مرحلية، إلا أن خسائر البشر الهائلة المادية والأخلاقية من استمرار اعتبار الدولار مرجعية للقيمة أكبر بكثير من أي خسائر مرحلية.
فالقضية ليست
الليرة التركية فقط والدفاع عنها وحمايتها، ولكن القضية في التحرر من القيمة الزائفة للدولار لكل البشر، ولا بد أن يتكاتف الجميع لإنهاء سيطرة فكرة
العملة عديمة القيمة الحقيقية بشكل عام.. ربما هذا أمر بعيد المنال مرحليا، إلا أن الممكن حاليا هو تقليل حجم الجريمة.
في هذه الأيام نتذكر سيدنا إبراهيم وما فعله في صراعه مع المعابد والكهنة والآلهة الزائفة والمذابح والقرابين، لقد كان وحده يقاوم، وعلينا في هذه الأيام المباركة أن نتذكر ليس فقط قصة الفداء العظيم، ولكن لنتذكر أن التحرر من عبودية البشر تقتضي التحرر من المعابد والكهنة بشكل رئيسي، فغالب البشر - حتى داخل أمريكا نفسها - مستعبدون ويقدمون القرابين الإجبارية للآلهة الجديدة في المعابد الجديدة.
إن دعم
الليرة التركية وغيرها من العملات بعيدا عن الدولار هو أحد محاور المقاومة للتحرر من النموذج، ويبدو أن
تركيا الآن أصبحت تمثل إزعاجا شديدا للنموذج وكهنته.. ليست تركيا فقط، بل كل من يحاول الخروج من النموذج، فالواجب على كل من يؤمن بحجم الجريمة في حق البشر أن يساعد كل من يحاول الانعتاق.
قد لا تتجاوز تلك الدعوة عدة مئات من قارئي هذه الكلمات، إلا أن الواجب يقتضي فعل ما يمكن من الجميع. إن عبور تركيا هذه الأزمة، سواء بقدر قليل من الخسائر أو بمكاسب سياسية وربما اقتصادية، سيقلل من استبداد كهنة المعبد الجدد وآلهتهم، وسيزيد من مسارات المقاومة التي نحتاجها جميعا لنتحرر من عبودية الدولار وكهنته.