شكلت
الحرب الأمريكية الاقتصادية على تركيا وإيران محور البحث والمناقشة في مختلف الأوساط السياسية والدبلوماسية والفكرية في بيروت؛ نظرا لانعكاس هذه الحرب على كل التطورات في المنطقة، وعدم اقتصار آثارها الاقتصادية والسياسية على الداخل التركي أو
الإيراني.
فمن المعروف أن لتركيا في لبنان امتدادات متنوعة، فهناك قوى سياسية وفكرية
تتضامن مع تركيا، بسبب دورها الفاعل على الصعيد الإسلامي والسياسي، في حين أن هناك قوى أخرى تنتقد
تركيا بسبب دورها في سوريا، وتعتبر أن ما يجري هناك هو نتيجة للسياسات التي اتبعها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في السنوات الأخيرة، وبعض هذه القوى تعبر عن "شماتتها" للمصير الذي وصلت إليه تركيا اليوم.
وفي المقابل، فإن ما يجري في إيران من أوضاع اقتصادية صعبة بسبب العقوبات الأمريكية؛ حظي باهتمام ومتابعة كبيرة من الأوساط السياسية والفكرية والدبلوماسية والإعلامية، بين من يراهن على أن تؤدي هذه العقوبات إلى انهيار النظام الإيراني، وتأثير ذلك على حلفاء إيران في المنطقة، ولا سيما حزب الله. وفي المقابل، فإن الداعمين لإيران ومؤيديها يؤكدون أنها قادرة على مواجهة هذه العقوبات، وأنها ليست المرة الأولى التي تواجه فيها إيران حربا اقتصادية أو عسكرية أو إعلامية.
وفي مقابل الرؤية الأحادية الضيقة في تقييم الحرب الاقتصادية الأمريكية على
أبرز قوتين إقليميتين في المنطقة (إيران وتركيا) بدأت تبرز في بيروت رؤية جديدة تدعو إلى خيار "التكامل الإقليمي بين هذين البلدين أولا، وبينهما وبين دول المنطقة كلها"، من أجل مواجهة هذه الحرب الاقتصادية الناعمة، والتي لا تقل خطورة عن الحرب السياسية والعسكرية.
وقد أقيمت في بيروت سلسلة ندوات سياسية وفكرية لبحث الأوضاع في تركيا وإيران، ومنها الندوة الحوارية الهامة في مقر حركة الأمة في بيروت، والتي شارك فيها باحثون أتراك وإيرانيون ولبنانيون وفلسطينيون، وركزت على دراسة الدورين التركي والإيراني، سواء على صعيد القضية الفلسطينية أو على صعيد
العالم العربي والإسلامي. وخلصت نتائج الندوة إلى أن التكامل والتعاون بين البلدين كمدخل لتكامل إقليمي واسع؛ هو الطريق الأصلح لمواجهة الضغوط والحرب الأمريكية القاسية.
وفي الإطار، نفسه يواصل "منتدى التكامل الإقليمي"، والذي أسس في بيروت قبل عدة أشهر اتصالاته ولقاءاته من أجل تحويل هذا المشروع إلى واقع فعلي، عبر الدعوة للحوار والتعاون بين العرب والأتراك والإيرانيين والأكراد؛ لوقف حروب المنطقة والبحث عن أشكال جديدة للتعاون بينهم. وقد لقي المنتدى ترحيبا واسعا من العديد من النخب العربية والتركية والإيرانية والكردية، وهو يعقد اجتماعات متتالية لبحث التطورات في المنطقة، ودراسة كيفية إطلاق مبادرات عملية في هذا الإطار، كما عقد المنتدى سلسلة اجتماعات لبحث التطورات الأخيرة وكيفية مقاربتها.
وفي موازة ذلك، أعد بعض الباحثين اللبنانيين والفلسطينيين والعرب سلسلة بحوث ودراسات حول مشروع التكامل الإقليمي وكيفية ترجمته العملية.
إذن، نحن أمام مقاربات جديدة في مواجهة الحرب الاقتصادية الأمريكية على تركيا وإيران. وبدلا من أن تقوم كل دولة بمواجهة هذه الحرب لوحدها، فإن الخيار الوحيد البحث عن مشروع تكاملي وتحويل المنطقة المشرقية، والتي تضم تركيا وإيران وسوريا والعراق والأردن، إلى منطقة اقتصادية مفتوحة ومشتركة، والعمل لإعادة ترتيب العلاقات مع مصر ودول المغرب العربي، إضافة للتواصل مع دول الخليج المستعدة لكي تدعم هذا المشروع.. وبموازة ذلك، يتم تعزيز التعاون مع القوى الدولية التي تعارض السياسات الأمريكية الترامبية، سواء في أوروبا أو الصين أو روسيا أو باكستان، وتعزيز مشروع دول البريكيس اقتصاديا وسياسيا، وكل ذلك يساهم في بلورة محور دولي - إقليمي جديد، يستطيع أن يضع حدا للسياسات الترامبية القاتلة، والتي تهدف ليس فقط لتركيع تركيا وإيران، بل لإخضاع العالم مجددا للهيمنة الأمريكية.
وتخلص هذه الدراسات إلى:
إنه رغم النتائج القاسية والمباشرة للحرب الاقتصادية الأمريكية على تركيا وإيران، والتي تظهر بتراجع سعر العملة المحلية مقابل الدولار، وازدياد الغلاء والتضخم، فإن هذه المعركة طويلة وينبغي مواجهتها ليس فقط بسياسات وإجراءات سريعة لاستيعاب الحرب، بل بمشروع تكاملي إقليمي ودولي للوقوف بوجه هذه السياسات الأمريكية للهيمنة؛ ومحاولة إخضاع المنطقة للمشروع الأمريكي - الصهيوني، والمتعاون - للأسف - مع بعض دول المنطقة.