هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بصرف النظر عن صحة نسبة مقال استراتيجيات التحكم في الجماهير للمفكر واللساني الأمريكي ناعوم تشومسكي (فالأرجح أنه مجرد تجميع لأفكار هذا المؤلف)، فإن المتأمل في الشأن التونسي يلاحظ بلا صعوبة أن المتحكمين في صناعة الرأي العام وتوجيهه قد استثمروا تلك الاستراتيجيات استثمارا براغماتيا موفّقا، وما عودة المنظومة القديمة (بتسميات جديدة) إلى واجهة الحكم بعد انتخابات 2014 الرئاسية والتشريعية إلا أعظم دليل على ذلك.
ورغم التعامد الوظيفي بين تلك الاستراتيجيات، أي اعتمادها المتبادل على بعضها البعض، فإنها في تقديرنا مشروطةٌ بنجاح إحدى الاستراتيجيات، ألا وهي "استراتيجية التلهية". والتلهية أو الإلهاء هو، ببساطة، تحويل الأنظار عن المشاكل الحقيقية بطرح مواضيع أو إشكاليات هامشية يتم تضخيمها بطريقة تجعلها مركز السجال العام. ولا يخفى هنا دور النخب المختلفة في إنجاح هذه الاستراتيجية.
وقد يبدو من التناقض القول بأن أعظم ضحايا خطابات التلهية (أي الإسلاميين وتحديدا النهضويين) هم من أعظم المستفيدين واقعيا منها، ولكن هذا الاعتراض يسقط عندما نعلم أنّ لاستهداف النهضويين (أو جعل صراع "العائلة الديمقراطية" معهم محور استراتجيات التلهية) آثارا غير مقصودة هي، من جهة أولى، تقوية التضامن الداخلي بين النهضويين، وتغذية الشعور بالمظلومية بإضافة عناصر جديدة لتغذية سرديتها، كما أنّ لتلك الاستراتيجيات، من جهة ثانية، آثارا أكثر نفعا للنهضويين، خاصة رفع الإحراج عنهم بعدم طرحهم للمشاكل الحقيقية للمواطنين، والانغماس في القضايا الهوياتية التي تعيق انبثاق مشترك وطني جامع قد يكون قاعدةً لمشروع التحرر من التخلف والتبعية.
إن استراتيجية التلهية، بل جميع استراتيجيات التحكم في الجماهير داخل البلدان التابعة والمتخلفة، ليست إلا جزءا من استراتيجيات تأبيد التبعية، ومنع أي تغييرات جذرية في منطق العلاقة بين القوى الدولية ومستعمراتها الاقتصادية والثقافية. فالعقول "التونسية" التي تدير تلك الاستراتجيات و"تُتونسها" لا تشتغل بذاتها ولا لذاتها، أو لمن تدعي الحديث باسمه والدفاع عنه، بل هي تشتغل موضوعيا لـ"حساب الغير"، وإن أنكرت ذلك بالاعتماد على أنساق حجاجية ذات خلفية علمانية أو إسلامية صريحة، أو حتى خلفية "هجينة" (بالمعنى السلبي للهجنة).
بعد الثورة التونسية، احتاجت النواة الصلبة للمنظومة الحاكمة منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا (وهي مُركّب جهوي- مالي- أمني معروف) إلى استراتيجيات التحكم في الجماهير للعودة إلى واجهة السلطة عبر سياسة المراحل. وكان لاستراتيجية التلهية دور مركزي في تحقيق تلك الغاية، ولمّا كان من المحال مواجهة استحقاقات الثورة بصورة صدامية مباشرة، فقد احتاجت النواة الصلبة لمنظومة الحكم في تونس إلى مسايرة "الجو الثوري" بصورة شكلية. وكان أول ما احتاجته هو نقل الاصطفاف من مستوى العداوة إلى المنظومة القديمة (بقيمها ومنطقها ونظامها الجهوي- الزبوني) إلى "الإسلاميين".
فعلى أساس تضخيم "المشترك" الحداثي أو العلماني بين النخب على اختلاف منحدراتها الأيديولوجية، أصبح ورثة المخلوع جزءا بنيويا من "العائلة الديمقراطية" المدافعة عن "النمط المجتمعي التونسي"، ولم يعد التناقض الأساسي مع ممثلي منظومة الحكم الدستوري-التجمعي، بل أصبح هو التناقض مع الإسلاميين الذين مثّل دخولهم إلى الحقل السياسي "القانوني" رضّة/ صدمة لم تستطع النخب العلمانية إلى الآن التعامل معها بعيدا عن الصور النمطية والأحكام الاختزالية، وبعيدا عن منطق النفي المتبادل ومفردات الصراع "الوجودي".
من أجل تلهية الجماهير وحرف أنظارهم عن عدوهم التاريخي كان يجب صناعة عدو جديد وجدته غرفة العلميات في الإسلاميين. ولمّا كان من الصعب بعد الثورة إعادة رموز المنظومة السابقة إلى واجهة المشهد، اختارت النواة الصلبة للمنظومة القديمة أن تدفع بـ"حلفائها" الأيديولوجيين (خاصة المنتمين إلى اليسار الثقافي المتمترس في الأحزاب الكرتونية زمن المخلوع، والناشط أيضا في مؤسسات المجتمع المدني والنقابات) إلى واجهة المشهد العام، وتحديدا إلى واجهة حركة نداء تونس باعتبارها قاطرة تلك المنظومة وأداتها الأساسية لإعادة التموقع والانتشار.
ولإذابة الاختلافات بين "الرفاق الأعداء"، كان من الضروري إحياء البورقيبية (فالمرحلة الدستورية المؤسسة للدولة الوطنية هي لحظة سياسية قابلة للتوظيف على عكس المرحلة التجمعية)، كما كان من الضروري تضخيم أسطورة "النمط المجتمعي التونسي" باعتبارها قاعدة للفرز وأساسا للصراع ضد الإسلاميين.
وبعد نجاح هذه الاستراتيجية في انتخابات 2014 الرئاسية والتشريعية، وجدت المنظومة القديمة نفسها قادرة على الاستغناء على "الطابور الخامس" اليساري، فعملت على استثمار الرأسمال البشري المتورط مع المخلوع في أغلب الوظائف السياسية المتوسطة والعليا. وهو خيار لم تجد صعوبة في المضي فيه اعتمادا على معطيين: أولا، تواطؤ الاتحاد العام التونسي للشغل الذي كان همه الأساسي هو مواجهة "أخونة الدولة"، وليس مواجهة الفاسدين الذين عادوا إلى وظائفهم، رغم شبهات الفساد التي تحوم حولهم، بل رغم الأحكام القضائية الصادرة ضد بعضهم.
أما المعطى الثاني الذي يسّر عودة الشبكات الزبونية للنظام السابق ورموزه، فهو قدرة ورثة المنظومة القديمة على تلهية الرأي العام، وعلى حرف الأنظار عن آليات اشتغال "نظام الإذلال" الذي يقفون على أعلى هرمه. فرغم سياسة "التوافق" بين النداء والنهضة، تلك السياسة التي انبنى عليها نظام الحكم بعد انتخابات 2014، استطاعت النواة الصلبة لمنظومة الحكم توظيف "زبونها" الجديد، أي حركة النهضة، لمواصلة استراتيجية التلهية بفرض إشكاليات هوياتية "دورية"؛ لعلّ آخرها هو توصيات لجنة الحريات الفردية والمساواة.
وفي ظل هذا الوضع السريالي الذي أصبح فيه ورثة المنظومة السابقة هم أساس "الدولة" وأجهزتها التنفيذية والتشريعية، استُثمرت أسطورة "النمط المجتمعي التونسي" لتدفع التونسيين إلى "التطبيع" مع رموز تلك المنظومة، أي مع "صنّاع صانع التغيير"، بدءا من المعتمدين والولاة ووصولا إلى المستشارين والوزراء ورئيس الجمهورية ذاته. وكان من لوازم تلك الأسطورة ونتائجها المنطقية؛ الاعتماد على "الكفاءات" التجمعية (فقد صار هؤلاء يدّعون الانتماء إلى البورقيبية وهم أوّل من هلّل للانقلاب عليها وتنكّر لها). وقد ارتكزت هذه السياسة على مغالطة كبرى تقول إنّ أغلب الفاعلين السياسيين، من النهضويين واليساريين الراديكاليين، لم يتعودوا على ممارسة السياسة على عكس التجمعيين. وبصرف النظر عن النجاح الكبير الذي حققته "غرفة العمليات" بجعل هذه المغالطة من باب البديهيات، فإنّ هذا المنطق بيّن الفساد من جهتين على الأقل:
1- من جهة أنّ التجمعيين هم أبعد الناس عن ممارسة السياسة بمعناها "التشاركي" الذي نسعى إليه في "الجمهورية الثانية". فهم قد كانوا، من جهة أولى، جزءا من "الإدارة" ومن الجهاز التنفيذي للدولة، ولكن تحت يافطة حزبية، كما إنهم قد كانوا، من جهة ثانية، يعتمدون على "الدولة" وعلى معايير "لا سياسية" في ممارسة "التدرج الاجتماعي" ومراكمة الرساميل المادية والرمزية، دون الاحتكام إلى معايير "سياسية" حقيقية للتواصل مع "الشعب" ومعرفة حجمهم الحقيقي، وهم لم يكونوا محتاجين لذلك بحكم أنّ النجاح "السياسي" قبل الثورة لم يكن مرتبطا بالأداء، بل بالولاء المطلق للقيادة وامتداداتها المافيوزية.
2- من جهة غياب حقل سياسي "طبيعي" في تونس قبل 14 كانون الثاني/ يناير 2014 وهيمنة الدولة على الحقل العام، مع السماح بهامش "معارضة" سياسية ومدنية "مدجّنة" وموظفة بنيويا في خدمة النظام، وشرعنة ممارساته أمام الرأي العام وأمام "الأصدقاء" في مراكز القرار الغربي. وهو ما يعني أنّ التجمعيين كانوا بمعنى ما أوّل ضحايا النظام الذي عمل على تكريس ثقافة الاستبداد والزبونية، حتى داخل هياكل الحزب، ولذلك فإنّ خبرة التجمعيين الإدارية والتنظيمية لا يمكن أن تختزل الفعل السياسي، وليست حجة على "امتيازهم" على سائر الفاعلين السياسيين الآخرين، كما لا يمكنها أن تكون عاملا مساعدا على بناء حقل سياسي "جمهوري" إلا حين يتجاوز التجمعيون أنفسهم نوازعهم الواعية واللاواعية في الارتداد إلى "الحقل السياسي التجمعي" إن صح التعبير. ولا يبدو حاليا ما يشير إلى وجود أية مراجعات فكرية لدى التجمعيين (فهم بعد انتصار نداء تونس يرفضون حتى مجرد الاعتذار لضحاياهم).
بصرف النظر عن مواقفنا النقدية من المنظومة القديمة ومن ورثتها، فإن تلك المنظومة قد أثبتت قدرة كبيرة على التحرك وسط سياقات معادية، بل أثبتت قدرتها على توظيف تلك السياقات وتجييرها لصالحها. وما نجاح التجمعيين في فرض البورقيبية باعتبارها "الخطاب الكبير" للثورة إلا دليل على فشل باقي القوى في بناء سردية الثورة الخاصة، بل فشلهم في بناء قاعدة حقيقية للجمهورية الثانية تمنع تحولها إلى مجرد لحظة ثالثة في الجمهورية الأولى. ولذلك كانت عودة التجمعيين إلى واجهة المشهد العام (باعتبارهم ورثة البورقيبية وقاطرة القوى المدافعة عن النمط المجتمعي التونسي)؛ نتيجة طبيعية لجملة من المسارات الارتكاسية التي تجعل أغلب القوى الوطنية، بارتهانها اللاواعي لاستراتيجية التلهية، أو حتى بتورّطها عن قصد فيها، مسؤولة سياسيا وأخلاقيا عنها.
وما دامت أغلب النخب تتحرك أساسا على قاعدة هوياتية، فإنها ستبقى مجرد وقود لمعارك دونكيشوتية لن يستفيد منها إلا الوكلاء التقليديون لمراكز القوى الغربية ومن ستستلحقهم بخدمتها وبقاعدتها الزبونية من العلمانيين والإسلاميين.