لا جدال في أن معركة
إدلب قادمة لا محالة، فقوات النظام السوري تواصل منذ أسابيع إرسال تعزيزات عسكرية إلى محيط المحافظة، وذلك بالتزامن مع
تصعيد روسيا القصف على مناطق في الريف الجنوبي الشرقي، الأمر الذي يشير عمليا إلى قرب بدء العد العكسي للهجوم المحتمل على محافظة إدلب. لكن السؤال يدور على حجم المعركة وتكتيكاتها وتداعياتها ومآلاتها، في الوقت الذي تتنامى الأوهام حول مصير هيئة
تحرير الشام وقدراتها التي تشكل الذريعة الأساسية للهجوم، في ظل الإجماع على "حرب
الإرهاب".
كشفت قمة طهران الثلاثية في أيلول/ سبتمبر 2018 بين زعماء
سوريا وتركيا وإيران عن فشل المحادثات حول مصير إدلب، وظهرت مرة أخرى الاختلافات. ففي حين شددت طهران وموسكو على ضرورة محاربة "الإرهاب" وحق دمشق في استعادة السيطرة على كامل أراضيها، دعت
تركيا لوقف لإطلاق النار، وتحولت قمة طهران إلى ساحة للجدال والسجال. فقد طالب أردوغان بـ"وقف لإطلاق النار"، محذرا من "حمام دم" في حال شُنّ هجوم على المحافظة الواقعة على حدوده. إلا أن بوتين رفض الاقتراح، مشددا على "عدم وجود ممثلين عن مجموعات مسلحة على الطاولة"، مخولين بالتفاوض حول الهدنة، في موقف أيده روحاني، والذي صرح عند استقباله نظيريه أن "محاربة الإرهاب في إدلب جزء لا بد منه في المهمة المتمثلة بإعادة السلام والاستقرار إلى سوريا"، مضيفا: "إلا أن هذا يجب ألا يكون مؤلما للمدنيين وألا يؤدي إلى سياسة الأرض المحروقة". واعتبر بوتين من جهته؛ أن "الحكومة السورية الشرعية لها الحقّ في استعادة السيطرة على كل أراضيها الوطنية، وعليها القيام بذلك".
تدرك تركيا طبيعة اللعبة الروسية، وأن دخول قوات النظام السوري مسألة وقت، وهي تحاول تحقيق بعض المكاسب عن طريق تسوية، فقد اتفقت دمشق وطهران وموسكو في "أستانا 10"؛ على تأجيل الهجوم مؤقتا على إدلب، والسماح لتركيا نفسها بالتعامل مع التهديدات التي تنبثق من جماعات إرهابية منفصلة في المنطقة، لكن هذا الحل الوسط، لم يدم طويلا، كما ظهر في قمة طهران، فتركيا في ظل أزمتها باتت الحلقة الأضعف مع التدهور الحاد في علاقة أردوغان بالغرب، وسوف تتنحى جانبا مع التصعيد، وتكتفي بالحصول على تنازلات غير ذات قيمة. ولم تنجح عملية فرض واقع جديد للمعارضة السورية المسلحة في محافظة إدلب من خلال تأسيس "الجبهة الوطنية للتحرير" في 1 آب/ أغسطس 2018، والتي تضم معظم فصائل المعارضة المسلحة في الشمال.
أدت الديناميات المتلاحقة إلى حسم تركيا ملف "هيئة تحرير الشام"، عقب وصول مسارات تفكيكها وتفتيتها إلى نهاياتها، حيث أعلنت رسمياً تصنيف "هيئة تحرير الشام" جبهة النصرة سابقا منظمة "إرهابية" في 31 آب/ أغسطس 2018، وفقاً لمرسوم صادر عن الرئاسة التركية، حيث أضافت الحكومة التركية هذه المجموعة إلى قائمتها الخاصة بـ"الأسماء الأخرى المستخدمة" من جانب "جبهة النصرة"، وذلك بعد نهاية مهلة أعطيت لـ"هيئة تحرير الشام"
كي تحل نفسها، بحيث ينضم السوريون إلى جبهة التحرير، ومن ثم "إيجاد آلية" للأجانب من المقاتلين لـ"الخروج من سوريا بعد توفير ضمانات". وتشمل عملية "العزل" أو "التحييد" أو"الإبعاد" المقاتلين الأجانب الموجودين في "حراس الدين" و"الجيش التركستاني الإسلامي". وقد واصل
الجيش التركي تحصين نقاط المراقبة التي يصل أحدها إلى حدود محافظة حماة جنوب إدلب.
جاءت الخطوة التركية بتصنيف "هيئة تحرير الشام" كمنظمة "إرهابية" بعد أن أدرجتها الولايات المتحدة الأمريكية على قائمة الإرهاب، في 31 أيار/ مايو 2018، وذلك لمنع أي استدخال للنصرة في إطار المعارضة المعتدلة التي تتمتع برعاية تركية. وقد عبرت النصرة منذ تأسيسها؛ مسارات من التحول في سبيل التكيف مع تحولات الأزمة السورية، حيث شكلت هويتها الملتبسة موضع جدل من قبل الدول الداعمة والحركات الجهادية. فهوية جبهة النصرة الملتبسة ظهرت جليا منذ الإعلان رسميا عن تأسيسها بتاريخ 24 كانون ثاني/ يناير2012، على الرغم من وجود التنظيم منذ شهر تموز/ يوليو 2011، بدون تسمية، فالتسمية الأولية، التي ظهرت في شريط الإعلان عن التنظيم الجديد، تشير بوضوح إلى التباس هوية التنظيم، وانتمائه، وتردده بين المركز والفرع. فقد أطلق على نفسه "جبهة النصرة لأهل الشام: من مجاهدي الشام في ساحات الجهاد"، وحافظ في بياناته المتتالية على هذه التسمية الطويلة،. ويبدو أنه كان يرغب في بداياته باستقطاب الجهاديين من بلاد "الشام" بصورة أساسية، وهو ما ظهر جليا من خلال اجتذاب جهاديي بلاد الشام، التي تضم سوريا والأردن ولبنان وفلسطين.
وصلت تكيفات النصرة البراغماتية إلى طريق مسدود، بعد أن تمكنت خلال سنوات الثورة من نسج علاقات مع دول إقليمية ودولية عديدة. وأظهرت جبهة النصرة منذ تأسيسها المزيد من البراغماتية، وأخذت تبتعد أكثر عن الفرع العراقي للقاعدة، وتقترب بصورة جلية من نهج القاعدة المركزي الجديد وتكيفاته الموسومة بــ"أنصار الشريعة". إلا أن الولايات المتحدة لم تحفل بتكيّفات النصرة وتحولاتها، فقد ادرجتها على لائحة الإرهاب في 11 كانون أول/ ديسمبر 2012.
وعلى مدى السنوات الثلاث الأولى من تأسيسها، حافظت جبهة النصرة على نهج يقوم على الحفاظ على علاقات ودية مع كافة فصائل الثورة السورية، وتجنبت الصدام مع كافة القوى المحلية والإقليمية والدولية، وقدمت تطمينات عديدة بعدم فرض رؤيتها حول مستقبل سوريا، واعتماد منهج الشورى في تدبير الخلافات وإدارة المناطق المحررة، والحرص على تقديم الخدمات والإغاثة للجميع، وعدم الانفراد في تحديد شكل الحكم، وتأجيل موضوعة تطبيق الحدود وإقامة الشريعة، إلا أن ذلك لم يفلح في إعادة النظر بالتعامل مع النصرة كحركة إرهابية، لا سيما أنها تبنت سلوكا أكثر عدوانية خلال السنوات التالية، ودخلت في صدامات مع رعاتها وحلفائها.
لقد تعرضت جبهة النصرة منذ إعلان بيعتها لتنظيم القاعدة، عقب الخلاف مع تنظيم "الدولة الإسلامية" في نيسان/ إبريل 2014، لضغوطات وإغراءات دولية وإقليمية لحثها على فك ارتباطها بتنظيم القاعدة، لاستدخالها في سياق الاعتدال والتخلص من وصمة الإرهاب، واستثمارها كقوة معتدلة فاعلة لمواجهة النظام السوري وحلفائه الإيرانيين، إلا أن تلك الجهود باءت بالفشل الذريع واستسلمت القوى الإقليمية لخيارات النصرة الراديكالية. وعندما تراجعت الضغوطات وضعفت المغريات، ظهر أبومحمد الجولاني زعيم جبهة في تسجيل مصور في 28 يوليو/تموز 2016، ليعلن عن إلغاء العمل باسم جبهة النصرة وتشكيل كيان جديد يحمل اسم "جبهة فتح الشام"، ويؤكد أن لا علاقة للكيان الجديد بأي جهة خارجية في إشارة لفك الارتباط بتنظيم القاعدة.
طبعت مسارات النصرة نهجا براغماتية فجا يقوم على مزيج من التحايل واستثمار الخلافات المحلية والإقليمية والدولية. فعمليات الفرز الاستقطاب أفضت في 28 كانون الثاني/ يناير 2017، إلى ولادة هيئة تحرير الشام؛ باندماج جبهة فتح الشام مع أربع فصائل أخرى ضمن كيان الهيئة، وهي: كتائب نور الدين الزنكي، وجبهة أنصار الدين، وجيش السنّة، ولواء الحق، وانضمّت مجموعات منشقّة عن أحرار الشام. وقد أدى النهج البراغماتي للجولاني إلى خلافات كبيرة بين القاعدة والنصرة. في هذا السياق، أعلن الجناح المعولم المرتبط بالقاعدة؛ عن رفضه لكل محاولات الجولاني بفك البيعة مع القاعدة، وقد أعلن عن تأسيس تنظيم "حراس الدين"بشكل رسمي مع إصدار بيانه الأول في 27 شباط/ فبراير 2018.
كما كان العامل "التركي" حاسما في بقائها وتحولاتها بالقطيعة مع القاعدة، فقد كان حاسما في تفكيكها، وسيكون كذلك في نهايتها. فقد دخلت نصرة الجولاني في تحالف هش مع تركيا، وباتت رهينة لتقلبات السياسة التركية. فمنذ أن دخل الجيش التركي في شمال غرب سوريا، في 12 تشرين الأول/ أكتوبر ا2017، برفقة مقاتلي النصرة؛ إلى محافظة إدلب من أجل إقامة "منطقة خفض تصعيد"، في إطار الاتفاق بين تركيا وروسيا وإيران بناء على مقررات "أستانة"، باتت القاعدة تناهض نهج الجولاني بصورة لافتة، وبدأ ذلك بشن حملة تطهير في صفوف النصرة من أنصار القاعدة بتفاهمات مع تركيا، تحت ذريعة تجنيب إدلب مصير حلب بعزل العناصر الجهادية المعولمة الموصوفة بالإرهابية. وإذا كانت تركيا تهدف إلى تأمين مصالحها القومية بمنع كيان كردي وتجنب حدوث لجوء كبير؛ بالتحالف مع هيئة تحرير الشام بعد تخليصها ممن تصفهم بالإرهابيين والمتطرفين كخطوة لإدماجها في مسارات التفاوض، فإن نصرة الجولاني تهدف إلى الحفاظ على مصالحها بالابتعاد عن القاعدة لتمكينها لاحقا من الحفاظ على إمارتها في إدلب.
على مدى أشهر من الاجتماعات بين الضباط الأتراك وبين ممثلين عن تحرير الشام في إسطنبول، وضعت تركيا جملة من الشروط على استدخال الهيئة في مكون جديد ياسم الجيش الوطني. إذ وضعت تحرير الشام أمام خيارين مباشرين من قبل تركيا، وهما: حل الهيئة لنفسها وانضمام من يريد الانضمام من عناصرها بسلاحه لفصائل المعارضة، مع منحه إمكانية الاختيار بين الفصائل، أو هو خروج الهيئة من كامل الشمال السوري وحصر وجودها في الساحل فقط، وإلا فإن تركيا ستلجأ إلى الخيار العسكري، وهو دخول فصائل المعارضة التي تدعمها تركيا في حرب لإنهاء تحرير الشام، على غرار تنظيم الدولة في مناطق درع الفرات بريف حلب. لكن ذلك بات من الماضي، إذ لم تعد ثمة خيارات أمام النصرة، فمسار تفكيك هيئة تحرير الشام بدأ عبر استراتيجية متدرجة وصبورة؛ قادتها دينامية أستانة من خلال تركيا التي تتوافر على معرفة دقيقة بمكونات جبهة النصرة وأجنحتها وحلفائها، بحكم العلاقات مع كافة الفصائل الجهادية التي عملت ضمن جيش الفتح، ومن ضمنها النصرة.
تكشف المظاهرات الأخيرة في إدلب عن المكانة الدونية التي باتت تتمتع بها جبهة النصرة، فلم يعد ينظر إليها كـ"أيقونة" للثورة، بل كـ"دنس" على الثورة. فقد اعتدى عناصر من "هيئة تحرير الشام" الجمعة الماضية على المظاهرة المركزية في مدينة ادلب، رافعين راياتهم بغرض تخريبها، ومطلقين الرصاص لتخويف المتظاهرين الرافضين لوجودهم، لكن المتظاهرين قاموا بإنزال رايات التنظيم وطرد عناصر "تحرير الشام"، والتي بدورها ردّت بشكل غير رسمي على الاتهامات الموجهة ضدها بتخريب المظاهرات والتشويش عليها في ادلب، وحاولت التخفيف من الاحتقان الشعبي ضدها، عبر رئيس إدارة الشؤون السياسية التابعة لها، يوسف الهجر، الذي قال في "تلغرام": "تتقدم هيئة تحرير الشام بالشكر والتقدير إلى شعبنا الصابر الصامد على تفاعله الكبير في التأكيد على ثوابت الثورة وخيار المقاومة والجهاد من خلال المظاهرات الضخمة التي انتشرت في الشمال المحرر"، وأرفق صورة من مظاهرات إدلب ترفع أعلام الثورة.
في هذا السياق، فإن الحديث عن معركة كبرى في إدلب لا يبدو واقعيا، فقد أصبحت النصرة في حالة عزلة، وتمكنت تركيا عمليا من تفتيتها وتفكيكها، وهي تستخدم ذريعة من كافة الأطراف لأهداف مختلفة. فالمسألة ترتبط بحسابات إيران وروسيا وتركيا، التي تعاونت لتشكيل تحالف ثلاثي قوي للسيطرة على الوضع في على سوريا، في ظل إحجام الغرب عن المشاركة العسكرية الفاعلة. وحسب "إليزابيث تيومان"، المحللة في معهد دراسات الحرب في واشنطن، فإن عملية أستانا استخدمتها تركيا وروسيا وإيران أداة لإدارة الحرب وتأمين مصالحها المختلفة، حيث تمتلك روسيا قوة جوية كبيرة في سوريا، بينما تتمتع إيران بحضور قوي على الأرض عبر مجموعات المليشيات التي تضم مقاتلين أجانب، بينما أردوغان زاد من نفوذ تركيا بإطلاق هجوم في كانون الثاني/ يناير الماضي للسيطرة على عفرين، وتمكن من طرد الوحدات الكردية التي كانت تسيطر على المدينة. ورغم أن "أردوغان شريك ضعيف من حيث القوات البرية والسيطرة على المجال الجوي، لكنه بنى نفوذا وأثبت قدرته على فرض حقائق على الأرض".
إن الحديث عن معركة كبيرة في إدلب ومقاومة شرسة من مقاتلي "النصرة" لا يقوم على سند واقعي، فالنصرة أو الفتح الهيئة ملتبسة ومفككة كأسمائها، وهي تفصيل صغير في حسابات اللاعبين الكبار. فالخشية تقوم على تضارب مصالح اللاعبين التي طالما راهنت عليه النصرة للنجاة والبقاء، لكن هذا التضارب حساباته مختلفة مع اقتراب نهاية الثورة السورية المسلحة، وهو بلا شك يقوم على تقديرات متباينة، فوفقا لخبراء ومحللين، حسب تقرير "وكالة الأنباء الفرنسية"، تركز تركيا الآن على منع وحدات حماية الشعب من السيطرة على منطقة يمكن أن تشكل قاعدة لحكم ذاتي طويل في سوريا ما بعد الحرب؛ يمتد من الحدود العراقية إلى البحر الأبيض المتوسط بشكل تهديدًا للأمن القومي التركي. وتريد روسيا أن تتمكن من تخليص نفسها من سوريا وعدم التورط في أي مستنقع يذكرها بالحرب السوفييتية في أفغانستان، بينما أولوية إيران هي الفوز بالنفوذ السياسي الرئيس كما هو الحال في العراق.
خلاصة القول أن معركة إدلب القادمة لن تكون كبرى في ظل تفاهمات مرتقبة بين روسيا وتركيا وإيران، ولن تشكل "هيئة تحرير الشام" تحديا صعبا، فهي لا تعدو عن كونها تفصيلا صغيرا، إذ لم تكن "جبهة النصرة" بعد انفصالها عن تنظيم "الدولة الإسلامية" ثم قطيعتها مع تنظيم "القاعدة"؛ سوى نسيج من الأوهام التي حيكت على يد دول إقليمية ودولية، في سياق اللعبة الاستراتيجية الدولية حيث تحول "الجولاني" إلى مقاول "جهادي"، وجرت عملية تهويلها وتضخيمها لأهداف سياسية محضة، وقد فقدت بريقها منذ زمن، ولم تعد تمثل شيئا سوى مصالح زعمائها، وأصبحت وبالا على الثورة السورية وكارثة على رعاتها.