عشية حلول الذكرى الرابعة لسقوط صنعاء في 21 أيلول/ سبتمبر 2014، غرد السفير السعودي لدى
اليمن، وضابط الاستخبارات السابق، محمد آل جابر قائلاً: "هاجمت المليشيا الحوثية المدعومة من إيران سلفيي دماج بحجة الطائفية، ثم قتلت قائداً في الجيش اليمني في عمران بحجة أنه تابع للإصلاح، ثم سيطرت على العاصمة والدولة ومؤسساتها بحجة محاربة الفساد وارتفاع أسعار المشتقات النفطية..!! وحينها أعلنت إيران سقوط العاصمة العربية الرابعة بيدها".
أراد هذا السفير أن يقدم لنا عرضاً مجتزأ من سيناريو لم تلعب فيه إيران سوى دور المتفرج والقابض في الآن نفسه على أدواته بإحكام، في حين أن السيناريو أُعد في أبو ظبي والرياض وتم تمويله بالكامل من هاتين العاصمتين. أما أدواته الرئيسية، فقد كان الحوثيون واجهتها وتتشكل من قوام النخبة السياسية المهترئة والأحزاب الصدئة، وأصحاب الأحقاد والثارات والعمى السياسي، وأولئك الذين دفعت بهم الأقدار إلى واجهة السلطة دون أن يستحقوها.
إيران هي المستفيد الأبرز من انتصار المليشيا في صنعاء، لا شك في ذلك، ولم يكن المرء ليحتاج إلى عقل استثنائي ليدرك هذه الحقيقة. لكن من الذي سهّل لإيران هذه المهمة ووفّر عليها نقودها وأسلحتها؟ ومن الذي أمر القبائل المدافعة عن دماج بالانسحاب من كتاف وصعدة، ومن الذي أجبر الرئيس الطارئ على السلطة ليُبلغ أهل دماج بأنه لا يستطيع حمايتهم؛ لأن أمريكا ضدهم ومعها قوى دولية وإقليمية أخرى؟
لقد صُدم الوسط السياسي في 2013 بالصفقة السياسية الجانبية والمفاجئة التي أبرمها السفير السعودي السابق لدى اليمن، علي بن محمد الحمدان، على هامش الحوار الوطني الشامل، وبدأ على أثرها بالانفتاح اللافت على
الحوثيين وجماعة صالح، وشرع كذلك في تسويق خطاب الكراهية والتحريض ضد "الإخوان"، وهو مفهوم يشير نحو حزب التجمع اليمني للإصلاح وليس إلى أحد سواه، وذلك لتبرير تقدم الحوثيين نحو صنعاء، والتغطية على جريمة تقويض الدولة التي كانت تتم وفق خطة محكمة مدعومة من الرياض، وتتأسس على كذبة "حيادية القوات المسلحة" التي عاد بها وزير الدفاع السابق محمد ناصر أحمد، من أبو ظبي، ما سمح للحوثيين بالتقدم نحو صنعاء، ومنع عن الجيش الذي كان يقاتل في عمران كُلَّ أشكالِ الإمداد والدعم المستحقين للصمود في وجه ذلك الهجوم.
إن أخطر ما في تغريدة السفير السعودي هي أنها ترفع الغطاء عن السيناريو الخبيث الذي لا يزال قيد التنفيذ من جانب أبو ظبي، وهي لا تزال تقوض بنيان الدولة اليمنية وتنشئ الكيانات الموازية، وتحول دون قيام السلطة
الشرعية بدورها في الأراضي المستعادة، وتتهم هذه السلطة بأنها مرتهنة لحزب الإصلاح، إلى جانب مواصلتها تشجيع وتحريض الكيانات الانفصالية المدعومة منها، للنيل من الوجود السياسي للإصلاح، خصوصاً في المناطق الجنوبية المستعادة من الانقلابيين.
هل أراد السفير بهذه التغريدة أن يقول للإمارات إنه لم يعد من الممكن الاستمرار في السيناريو ذاته، خصوصاً وأن الإمارات تواصل مهمة بناء نفوذها الخاص في المحافظات الجنوبية على حساب الرياض، وتقويض سمعة التحالف الذي تقوده الرياض؟
قد يسمح النص باستنتاج ذلك، لكن ماذا عن استمرار تورط الإعلام السعودي في النيل من الطيف الواسع من القوى الوطنية التي تقاتل الحوثيين، وتدافع عن الدولة اليمنية المغدورة، وتشكل على الأرض حليفاً لا يشق له غبار؟ وكيف نفسر الانحراف السعودي الخطير الذي نراه في شكل انتشار عكسري واسع النطاق في منطقة مسالمة مثل
محافظة المهرة، الواقعة شرقي اليمن، فيما تشهد الجبهات الرئيسية جموداً شبه كامل؟
السفير آل جابر تحديداً لم يكن في منأى عما شهدته صنعاء في يومها الأسود الحزين، فقد قال كلاماً مستفزاً وغير لائق بشأن دوره في إجلاء نائب الرئيس الفريق علي محسن صالح، ولم يكن يُفهم من حديث هذا السفير سوى أنه يتعمد تحجيم الرجل الثاني في الدولة اليمنية دون مسوغ، ويمارس نيابة عن أسياده استغلالاً لا ينم عن مروءة؛ لوجود الرجل ضيفاً قسرياً ومنعدم الخيارات في الرياض، مثله مثل الرئيس ورئيس الحكومة وبقية الوزراء.
لقد أظهر السفير محمد بن آل جابر أنه كان "طرزان" مرحلة سقوط صنعاء، فقد كان يقيم شبكة تواصل نشطة مع قيادات أفراد القوات المسلحة ومع المسؤولين، ويصدر الأوامر ويتحكم بأريحية بمجرى الأحداث، دون أن يدرك أن ثمة من يدير اللعبة بطريقة أكثر كفاءة وخبثاً ومكراً.
كان الإطار العام لنكبة سقوط صنعاء هو الثورة المضادة التي تشكل أحد الاختيارات الكارثية لدول قلقة من مصير محتمل، لذلك الذي عاشته بلدان في الربيع العربي وهي تشق طريقها للتخلص من الدكتاتوريات المقيتة.
لم يكن هناك ما يقلق هذه الدول، ويدفعها إلى الغدر بشعوب عصف بها الفقر والفساد، وتحولت إلى جمهوريات ملكية بامتياز. فالربيع العربي لم يكن مشروعاً لتصدير الثورات، بل كان موجة محفزة للإرادات الشعبية في البلدان التي تعيش تحت وطأة طيف واسع من التحديات المركبة وشديدة التعقيد.
ولكن
أبو ظبي والرياض سخّرتا كل إمكانياتهما لتدمير ذلك الربيع، وانسحب الأمر حتى على اليمن الذي كان في عهدتهما تقريباً وقطع استناداً إلى اتفاق المبادرة الخليجية، شوطاً مهماً على طريق استعادة الاستقرار، في وقت كانت الدولة اليمنية برمتها تقع في قبضة من كان بوسع الرياض وأبو ظبي مقايضتهم على كل شيء، ولكنهما اختارتا استكمال التعاطي مع اليمن بطريقة الصدمة.
ها هي ارتدادات الصدمة تعصف اليوم بالداخل السعودي نفسه؟ فقدت تسلل إلى قلب السعودية خريف عصف بكل شيء، ولم يعد كل شيء على حاله حتى العائلة المالكة نفسها.