كان الكاتب الصحفى الراحل "موسى صبري" هو أول مَن أطلق على "أشرف مروان" (صهر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر) لقب "الطفل المعجزة"، ساخراً من صغر سنه، بما حققه من ثروة هائلة تقدر بمئات الملايين من الدولارات، وسلطة ونفوذ تجعله يزيح من أمامه أي مسؤول يعترض طريقه أو يشعر تجاهه بالخطورة على مكانته! ومعروف مدى الصلة الوثيقة التي كانت تربط موسى صبري بالرئيس الراحل "أنور السادات"، فقد كان أكبر المساندين والداعمين له منذ توليه الحكم.. وهو الصحفي الناطق باسمه، فلا يمكن أن يطلق هذا اللقب دون موافقته وبرضاه، لتبدأ بعد ذلك حملة هجوم ضارية في الصحف
المصرية ومن كبار الصحفيين على أشرف مروان وعلى سلوكياته المثيرة للشبهات، وعلى صفقاته المريبة والرشى التي تقاضاها في صفقة سيارات المرسيدس الخاصة بمؤسسة الرئاسة، وعمولاته في تجارة السلاح، كصفقة الطائرات المشبوهة مع شركة بوينج، وعلاقته غير المعلنة بـ"كمال أدهم"، رئيس جهاز الإستخبارات السعودية في ذلك الوقت، عندما كانت العلاقات بين مصر والدول العربية مقطوعة بسبب زيارة الرئيس السادات للكيان الصهيوني.. وكان الملك فهد يشن هجوماً عنيفاً على الرئيس السادات، مما يوحي بأن تلك الحملة لم تأت من فراغ أو أنها حملة الغرض منها كشف فساد مسؤول في الدولة، بل جاءت تعبيراً عن غضب الرئيس السادات عليه وأنه قرر خروجه من جنته، وأن قرار إبعاده عن مركز القرار قاب قوسين أو أدنى! وبالفعل تمت إزاحته والإطاحة به.
لقد بزغ نجم أشرف مروان في عهد الرئيس الراحل "أنور السادات"، وليس في عهد حماه عبد الناصر، وإن كان قد عمل من قبل سكرتيراً في مكتبه، وبالتحديد بعد ما سمى بثورة التصحيح في 15 أيار/ مايو عام 1971، حيث عينه السادات سكرتيراً للرئيس لشؤون المعلومات، وأعطاه صلاحيات قد تقف عندها كثيراً وتدهشك أكثر، فقد تضمن القرار الصلاحيات الآتية:
1- يمثل أشرف مروان رئيس الجمهورية شخصياً أمام جميع رؤساء وملوك العالم العالم.
2- يمثل أشرف مروان جهاز المخابرات المصرية أمام جميع أجهزة المخابرات في العالم.
3- لا يجوز تحرك أي من القوات المسلحة المصرية إلا بإذنه شخصياً.
4- يشرف على جهاز مباحث أمن الدولة والمخابرات العامة والمخابرات الحربية في ما يخص أمن وسلامة رئيس الجمهورية.
وهذه صلاحيات كبيرة ومطلقة لا تقل عن صلاحيات رئيس الجمهورية نفسه. والسؤال هنا: لماذا أعطاه الرئيس السادات كل هذه الصلاحيات وتلك المكانة الرفيعة التي لم يسبقه إليها أحد من ذي قبل؟!
لقد
قيل كلاماً كثيراً عن هذا الرجل الغامض في حياته وحتى مماته، فمثلاً قيل إنه سرق خزنة عبد الناصر بعد موته، وذهب بها إلى السادات قبل أن يصل إليها أحد من المحيطين بعبد الناصر، ممن أطلق عليهم بعد ذلك مراكز القوى، وقيل إنه أول من أبلغه بتحرك هؤلاء ضده والمؤامرة التي تحاك للإطاحة به، وأعطاه تسجيلات تثبت ذلك. ومن هنا جاء تحرك السادات السريع وسبقهم بالقبض عليهم جميعاً ليلة الخامس من أيار/ مايو عام 1971، وكما يقال في المثل المصري: "اتغدى بيهم قبل أن يتعشوا به".
كان يوم 15 أيار/ مايو يوماً فاصلاً في تاريخ مصر والرئيس السادات الذي ثبت فيه دعائم حكمه، كما كان يوم صعود الطفل المعجزة، والذي أخذ درجة الدكتوراة بين عشية وضحاها وأصبح يُلقب بالدكتور أشرف مروان، الذي أصبح أقوى من أي مسؤول في الدولة بعد الرئيس السادات بالطبع.. كان يعطي الأوامر والتعليمات للوزراء وكانوا يطيعونه في كل ما يطلبه ويلبون جميع أوامره!
ولكن سيظل السؤال عالقاً بلا إجابة شافية أو مقنعة: من أين أتى أشرف مروان بكل هذه القوة والنفوذ؟ ولماذا أعطت له هذا السلطات المطلقة؟
هذه الشخصية فيها الكثير من الغموض وتثير كثير من الجدل حولها، وتستفزك لأن تتساءل وتجد لتساؤلك أكثر من إجابة وتحريك أي الإجابات هي الأكثر للمنطق والأقرب للحقيقة، مما يضع الباحث الجاد والذى يريد أن يصل إلى الحقيقة في مأزق. فهو لا يريد أن يلقي التهم جُزافاً، ولكنه في الوقت ذاته لا يستطيع أن يلغي عقله ويغفل عن وقائع يراها بأم عينه تضع فرضيات يُبنى عليها ويجتهد فيها، لذلك كثرت حوله الأقاويل والشائعات، لعلاقاته المتعددة والمتنوعة، بل والمتشابكة بين الدول بعضها ببعض من ناحية، ومن ناحية أخرى بين الأفراد أصحاب القوة والسلطة والنفوذ. وقد تبدو في بعضها علاقات غريبة وملتبسة بل مريبة، وكلها تحمل سمة الغموض لصاحب الشخصية المركبة..
لذلك عندما أصدر "يورى بار جوزيف"، المحلل الاستخباراتي السابق للجيش الصهيوني، كتابه "الملاك" (THE ABGEL) عام 2010، والذي ادعى فيه
عمالة أشرف مروان للموساد، وأنه هو مَن قدم نفسه للاستخبارات
الإسرائيلية وهو في العاصمة البريطانية لندن. والكتاب يعتمد على مقابلات مع مسؤولين سابقين في أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية،
ووثائق خاصة بملف أشرف مروان وتكشف الكثير عن خفاياه.. ادعى هؤلاء الأمنيون أن أشرف مروان اتصل بالسفارة الإسرائيلية في لندن عام 1968، وطلب أن يتحدث إلى عضو في فريقها الأمنى وأبدى إستعداده العمل لصالح المخابرات الإسرائيلية وتم تجاهله مرتين، وبعدها ترك مروان رسالة عرف نفسه بالاسم، مؤكداً لهم مرة أخرى عن استعداده للعمل لصالح المخابرات الإسرائيلية!! وصادف أن تواجد في لندن في ذلك الوقت رئيس الموساد في أوروبا آنذاك "شيموئيل جورين"، والذى عين في تموز/ يوليو عام 73 قائداً لجبهة الجنوب خلفاً "لأريئيل شارون"، ثم أقيل بعد أربعة أيام من اندلاع الحرب، وهو أحد القادة الأسرائيليين الذين أدلوا بشهادتهم بشأن هزيمة إسرائيل في حرب أكتوبر أمام لجنة "اجرانات"، المهم لقد التقط "شيموئيل جورين" هذه الرسالة وتعرف على كينونة صاحبها، فأدرك على الفور أنه أمام صيد ثمين مما دفع الموساد لفتح ملف له باعتباره عميلاً محتملاً.
كانت البداية أن أعطى أشرف مظروفاً لرجل الاستخبارات الذي قابله في مقهى لندن، وقال له: "هذه عينة مما أستطيع أن أقدمه لكم لن أطلب أي شيء الآن، لكننى أتوقع أن تدفعوا لي في اللقاء المقبل". وكان المقابل 100 ألف جنيه إسترليني، وأصبح هذا المبلغ فيما بعد هو المبلغ المحدد له عن كل مقابلة معهم. ويدعي أحد المصادر الإسرائيلية أنه تقاضى ثلاثة ملايين دولار خلال عمله لدى الموساد!
في بادئ الأمر تشكك الموساد في نية مروان هل يخطط؛ لأن يكون عميلاً مزدوجاً يقدم معلومات غير صحيحة للإسرائيليين، أم أنه سيمرر لهم أسراراً عن حماه، أي عن جمال عبد الناصر!! وهنا طمأنهم مروان بأنه يائس بعد هزيمة مصر في ست ساعات في حرب 67، ويريد أن يكون مع الجانب المنتصر. وهنا استغل الإسرائيليون هذا الضعف الإنساني لدى مروان المصدوم في هزيمة بلده في لمح البصر وضياع أحلامه، كغيره من الشباب المصري الذي آمن بعبد الناصر، ثم كفر به بعد الهزيمة، ولكن أشرف ليس كمثله أحد من الشباب المصري. إنه زوج ابنة الزعيم، لذلك استطاعوا استثماره لأقصى درجة، واستطاع هو أن يستثمر قربه من صانعي القرار.. أشرف مروان عمل لحسابه فقط منذ البداية، وحقق ما كان يصبو إليه من مال وقوة ونفوذ، ولم يعمل لحساب إسرائيل أو مصر كما يزعمون.. حتى نهايته المأسوية أراها قد وضعها بنفسه ولم تضعها له جهات استخبارية هنا أو هناك، أو مافيا السلاح كما يرجح البعض، وهذا هو رأيي المتواضع!
وبعد فحص المستندات من جهة الاستخبارات الإسرائيلية وبدت لهم أنها أصلية، قال رجال الموساد إن مواد كتلك من مصدر كهذا هي أمر لا يحدث إلا مرة كل ألف عام. وقال أحدهم: "كان لدينا شخص ينام في سرير عبد الناصر"!
اختار الموساد اسمين حركيين لأشرف مروان، أحدهما "العميل بابل" والآخر "العريس"، لتبدأ رحلته في عالم
الجاسوسية. وقال عنه "تسيفى زامير"، رئيس المخابرات الإسرائيلية إبان
حرب أكتوبر 1973، إنه "قدم خدمات مهمة
كعميل للموساد منذ تجنيده في أواخر الستينيات، وأنه مرر لإسرائيل معلومات في غاية الأهمية". ولعل أخطر ما فيها هو إبلاغ الجانب الإسرائيلى عن موعد حرب أكتوبر 73، إذ اتصل أشرف مروان بضابط الاتصال المكلف بمتابعته من باريس وحذر من هجوم مصري وشيك في 6 أكتوبر، فعقد مجلس الوزراء الإسرائيلي جلسة طارئة على الفور، وقرر التصرف وفقا لمعلومات مروان. وبدأ الإسرائيليون في حشد دباباتهم، ولكن كان الوقت متأخراً، إذ أنه أبلغهم بأن الهجوم سيكون عند الغروب بينما حدث الهجوم في الثانية ظهراً، مما اعتبره البعض في الموساد أنه ضللهم في المعلومة، وأنه أحد اسباب هزيمة إسرائيل في حرب أكتوبر.
فقد أصدر الجنرال "إيلي زعير" الذي شغل منصب رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية أثناء حرب أكتوبر؛ كتاباً بعنوان "حرب الغفران... الإخفاقات والدروس"، ذكر فيه أن أحد أسباب إخفاقات إسرائيل في هذه الحرب هي ثقتها في العميل بابل الذي تم تجنيده، ووصفه بأنه كان يشغل مناصب هامة في مصر وكان قريباً للغاية من جمال عبد الناصر.
ولكن ما الذي كانوا سيستطيعون فعله في تلك الساعات القليلة التي فصلت بين التوقيتين؟! لقد أوصل لهم المعلومة الأهم، يوم الحرب التي لم يكونوا يتوقعونها من الرئيس السادات. ومن المؤكد أن مروان لم يكن يعلم توقيتها بالضبط؛ لأنها اقتصرت على السادات ووزير الحربية ورئيس أركان الجيش ورئيس غرفة العمليات العسكرية فقط.
تجاهلت الحكومة المصرية هذا الكتاب تماماً ولم تعقب عليه بالنفى أو تكذب تلك الرواية الإسرائيلية، مما جعل القارئ يقع فريسة لها، خاصة أنها قد تبدو متماسكة في ظل غياب رواية مصرية رسمية! وتكرر نفس الشيء حينما تحول هذا الكتاب لفيلم يشاهده العالم أجمع، ويحمل نفس الاسم (الملاك)، وهو اسم يحمل الكثير من الروحانيات، وهو من إنتاج "نيتفليكس" (Netflix).
وجاء الفيلم أقل بكثير من الكتاب الذي تميز بأسلوبه الساحر ولغة التشويق إلى جانب الوثائق الذي يحتويه. الفيلم بصفة عامة ضعيف فنياً وفقير إنتاجياً، ومليء بالأخطاء التاريخية. ولم يحسن السيناريست توظيف شخصيىة ملتبسة ومركبة وغنية بالأحداث، كشخصية أشرف مروان، توظيفاً درامياً يليق بثرائها الدرامي؛ في نسج سيناريو قوي شيق، فبدا السيناريو ضعيفاً ومملاً. ولم يغط الإخراج على ضعف السيناريو بكادراته التي لم يكن فيها أي إبداع، بل زاده سوءاً على سوء، لينتهي الفيلم بالرسالة التي أرادوا أن يوصلوها من خلاله بأن الملاك أشرف مروان رجلهم، رجل السلام الذي كان لا يريد حرباً بين مصر وإسرائيل كي لا تسفك دماء المصريين والإسرائيليين وأنه أنقذ إسرائيل!
لا شك أن الكيان الصهيوني اختار توقيت عرض الفيلم قبل احتفالات مصر بنصر حرب أكتوبر 73؛ ليوجه ضربة معنوية قاصمة للشعب المصري بكشفه عن عميل الموساد، زوج ابنة زعيم القومية العربية جمال عبد الناصر الذي كان عدوه الرئيس إسرائيل، ويريد أن يمحوها من على وجه الأرض ويرمي بها في البحر. وللأسف، لم ترد الحكومة رداً رسمياً على هذا الاتهام الخطير الذي يزلزل الأرض من تحت أقدامنا، وتركتنا فريسة للتكهنات والاجتهادات، دون أن تكون لدينا معلومات موثقة غير التي وردت في الرواية الإسرائيلية!
ولكن ليس كل ما يصدر من الجانب الإسرائيلي يكون صحيحاً، كما أنه ليس كل ما يصدر عنه يكون بالضرورة كاذباً أو ملفقاً. ومن هنا كان هذا اللغط في التعامل مع الكتاب أو الفيلم..
وفي زمن تحويل البوصلة وتغيير المفاهيم وتبديل المعايير، بحيث أصبح الوطني خائناً والخائن وطنياً. فلا تندهش كثيراً أن تجد الناصريين يدافعون عن أشرف مروان، ويصفونه بالبطل الذي ضلل إسرائيل، ويدعون أنه عمل ذلك لصالح مصر وقدم خدمات جليلة لمصر. وهذا ليس غريباً عليهم، فهذا طبعهم الذي نشأوا عليه، قلب الحقيقة بما يتماشى مع أهوائهم. فلقد سبق أن حولوا الهزيمة لنصر، ونصر أكتوبر لهزيمة؛ لأنه جاء على يد السادات الذي يكنون له العداء.. أما من يزعمون أنهم ليبراليون فقد لاذوا بالصمت، وقد أصبحوا متماهين مع النظام، ولهم علاقات ومصالح مشتركة مع الكيان الصهيوني، ويترجمون كتبه ومقالاته. وقد فضحتهم جهات رسمية إسرائيلية منذ ما يقرب من شهر، بنشر أسماء أحد عشر نجماً من الصحفيين المصريين على أنهم عملاء لها، ومنهم مَن يظهر أمام الناس على أنه مثال للوطنية والشرف، والوطنية والشرف براء منه!
ولكن يبقى السؤال: هل الرئيس جمال عبد الناصر كان على علم بعمالة زوج ابنته؟ وهل كان الرئيس أنور السادات أيضا يعلم ذلك؟!
لقد كان أشرف مروان غامضاً في حياته، وأصبح لغزاً محيراً بعد مماته!