لا يُقاس نجاح أية عملية عسكرية بمدى تحقيقها لأهدافها الميدانية، وإنما في قدرة هذه العملية على فرض معادلات جديدة في
العلاقات بين الطرفين المتصارعين.
من هذا المبدأ يمكن النظر إلى الهجوم الإسرائيلي في 17 من أيلول/سبتمبر الجاري على اللاذقية، وما سببه من إسقاط النظام السوري بالخطأ لطائرة "إيل 20" الروسية.
في المعايير الاستراتيجية تعتبر العملية العسكرية الإسرائيلية ليست فاشلة بالمطلق فحسب، بل أدت أيضا إلى انعكاسات سلبية كبيرة على إسرائيل، انعكاسات من شأنها أن تغير قواعد اللعبة أو قواعد الاشتباك فوق الأجواء السورية.
اجراءات استراتيجية
لم يكن رد الفعل الروسي معادلا للخطأ الذي أدى إلى إسقاط الطائرة "إيل 20"، وقد بدا واضحا أن موسكو لم يكن لها أن تُفوِّت هذه الفرصة دون استغلالها استراتيجيا.
في البداية قال بوتين: إن الحادث الأخير نجم عن سلسلة ظروف مأساوية عرضية، بعدها وصل إلى موسكو قائد سلاح الطيران الإسرائيلي عميكام نوركين، وغادر موسكو بانطباع بأن المشكلة قد حُلّت.
لكن بعد ستة أيام من الحادثة، بدأ موقف موسكو يتغير بقوة مع الكشف عن خلاصة التحقيق الذي أجرته وزارة الدفاع الروسية، ووصل الأمر إلى إعلان موسكو عن القيام بثلاث خطوات كبيرة سيكون لها تداعيات على الأطراف الثلاثة (النظام السوري، إيران، إسرائيل):
ـ تزويد النظام السوري بمنظومة صواريخ إس 300.
ـ تجهيز المراكز القيادية لقوات الدفاع الجوي التابعة للنظام بمنظومة تحكم ومراقبة مركزية.
ـ إطلاق تقنيات التشويش الكهرومغناطيسي لمنع عمل الرادارات واتصالات الأقمار الاصطناعية والطائرات.
تمتاز صواريخ إس 300 بمداها الواسع الذي يصل إلى 150 كلم وبدقتها العالية وقدرتها على الاشتباك مع أي هدف جوي، وقادرة على التعامل مع الجيل الرابع من الطائرات الأمريكية.
وليس معروفا إلى الآن هل ستكون هذه المنظومات تحت تصرف النظام بشكل مباشر أم تحت إشراف روسي، وما هي الحدود التي يستطيع فيها النظام استخدام هذه الصواريخ؟
رسالة لإسرائيل
من الواضح أن تسليم هذه المنظومات لدمشق لا يهدف كما قال الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف إلى "حماية العسكريين الروس"، فلو كان الأمر على هذا النحو لسُلمت المنظومات للقيادة الروسية في
سوريا كما هو حال صواريخ إس 400 المتواجدة في قاعدة حميميم.
الهدف من تسليم المنظومات إلى دمشق منع إسرائيل من توجيه ضربات مستقبلية ضد قواعد النظام العسكرية، وبحسب صحيفة "يديعوت أحرنوت" نقلا عن مصادر أمنية إسرائيلية، أرسلت
روسيا رسالة قاطعة للحكومة الإسرائيلية قبيل حادثة الطائرة بأيام، تفيد أن مهاجمة إسرائيل لأهداف سورية تتعارض ومصلحتها في توطيد حكم الأسد.
وعليه، فإن تسليم المنظومات الصاروخية للنظام يسمح له بالرد على الهجمات الإسرائيلية من دون جر روسيا إلى مواجهة مباشرة مع إسرائيل.
وفي ما يتعلق بتجهيز قوات الدفاع الجوي بمنظومة تحكم ومراقبة مركزية، وإطلاق تقنيات التشويش الكهرومغناطيسي، فإن هذه الخطوات ستدفع إسرائيل إلى تغيير طريقة عملياتها في الأجواء السورية، في ضوء قدرة موسكو الكبيرة بحسب مراقبين إسرائيليين في استخدام الحروب الإلكترونية لإعاقة عمل سلاح الجو الإسرائيلي.
تفاهم ثلاثي
ومع أن إسرائيل تعمل مع الولايات المتحدة على منع وصول هذه الصواريخ إلى النظام السوري، عبر صفقة أو تفاهم ثلاثي بين هذه الأطراف يتعلق بمجمل الملف السوري، إلا أن التصريحات الإسرائيلية توحي بأن حكومة نتنياهو قد لا تمانع من تسليم دمشق هذه الصواريخ إذا ربط عملها بقواعد متفق عليها، ويبدو تصريح نتنياهو ذا مغزى؛ "تسليم صواريخ إس 300 إلى أيدي غير مسؤولة يهدد أمن المنطقة".
بالمقابل، تصب التصريحات الروسية في هذا الإطار، على الرغم من القرارات الروسية الكبيرة، فقد أعلن الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف أن موسكو لا ترغب في خصام دائم مع إسرائيل، وأعلن نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف أن تزويد دمشق بصواريخ إس 300 لن يفسد العلاقة بين روسيا وإسرائيل.
تشكل هذه التطورات انتصارا كبيرا للدبلوماسية الروسية، صحيح أن موسكو لن تدفع الأمور إلى حد منع الطيران الإسرائيلي من شن هجمات في الأجواء السورية، لكنها بالمقابل ستضع قواعد جديدة للاشتباك من شأنها أن تقيد حركة إسرائيل، مع السماح لها بتنفيذ هجمات ضد إيران في حال تجاوزها للخطوط الحمر الإسرائيلية.
الخطوات الروسية لا تقتصر على البعد الإسرائيلي فقط، وإنما تتعداه إلى إيران، فهذه الصفقة ستعيد النظام السوري إلى الحضن الروسي بعدما حاول النظام مؤخرا الانفتاح عسكريا على إيران وإبرام اتفاقيات عسكرية واسعة، من شأنها أن تؤثر بالسلب على القدرة الاستراتيجية الروسية في سوريا، خصوصا أن إيران تشكل عائقا أمام تحقيق روسيا لرؤيتها النهائية في سوريا.
*كاتب وإعلامي سوري